يستخدم مصطلح الحب عادة كإطار لوصف طيف واسع من المشاعر الإنسانية صنَّفها فلاسفة الإغريق ضمن أربع فئات هي: حب العائلة، وحب الأصدقاء، والحب الإلهي، ثم الحب العاطفي، وما يهمنا في هذه السطور هو مفهوم الحب العاطفي.
لا تُذكر عاطفة الحب إلا ويذكر معها مصطلح الحب الأفلاطوني المستنبط من حوارية "سمبوزيوم" التي ميّز فيها أفلاطون بين الحب الجسدي والحب المثالي الذي يسمو بصاحبه إلى عالم الروح، وقد اقتفى ابن حزم الأندلسي أثر أفلاطون في كتابه "طوق الحمامة"؛ حيث وصف الحب بأنه "اتصال بين النفوس في أصل عالمها العلوي"، في حين اختلف فقهاء الإسلام حول الحب فاعتبره بعضهم مرضاً تصاب به القلوب الفارغة من حب الله، واعتبره آخرون فطرة إنسانية لا ينبغي كبتها.
نبتدئ جولتنا في علوم الحب بعلم النفس؛ حيث اعتبر فرويد الحب قناعاً للرغبة الجنسية المكبوتة، وفي المقابل طوّر عالم النفس الاجتماعي إريك فروم إطاراً مغايراً لوصف وتحليل ظاهرة الحب، ففي كتابه "فن الحب" يرى فروم أن الحب هو فن ومهارة يمكن تعلمها، ويعتبره على المستوى الاجتماعي موقفاً سلوكياً وإرادياً فاعلاً، وعلى المستوى النفسي طريقاً للوصول للانسجام الداخلي مع الذات والخارجي مع المجتمع، وخصوصاً لأولئك الذين يعانون من الاغتراب المرتبط بخصوصيتهم الفكرية والنفسية.
حديثاً ازداد الحديث عن الحب كظاهرة علمية مخبرية، وقد ارتبط هذا الطرح بالتطور المتسارع في تقنيات التحليل الهرموني الكيماوي والقياس العصبي وضمن سياق "المنهج المعرفي التجريبي" الذي يرى أن هناك أساساً مادياً لكل ظاهرة إنسانية أو طبيعية، وانطلاقاً من هذا الأساس تم التعامل مع عاطفة الحب كظاهرة كيماوية فسيولوجية تعتمد بدايةً على تبادل وتحليل نوع معين من الهرمونات تسمى الفيرمونات، وهي مركبات كيماوية يفرزها دماغ الإنسان كما الحيوانات، وحيث إن وظيفتها الرئيسية في عالم الحيوان هي تبادل الرسائل الكيماوية المتعلقة بالمزاج الجنسي فقد افتُرض أن لها نفس الوظيفة لدى الإنسان، وقد أظهرت بعض الاختبارات أن من ضمن الفيرمونات التي تفرَز مع سوائل الجسم كالعرق واللعاب ما يمكن اعتباره توقيعاً جينياً للفرد وهذه الفيرمونات يتم تبادلها عبر الهواء بين الذكر والأنثى ويعمل عضو متخصص في الدماغ على تحليل فيرمونات الشخص المقابل للتأكد من جودة الموروث الجيني لأي مولود يتم إنجابه نتيجة تزاوج هذين الشخصين، وفي حالة التوصل لنتيجة إيجابية يشعر الشخصان بالتجاذب نحو بعضهما ويطلَق العنان لفيض من الهرمونات داخلهما؛ بعضها تتفاعل مع جسم ودماغ الإنسان فتحفّز المراكز العصبية المتخصصة بالإثارة الجنسية، وأخرى تمنح الشعور بالسعادة ومكافأة الذات (وهي ذات الهرمونات التي يتم إفرازها عند الحصول على مكسب مادي)، وأخرى تحفّز مراكز الإدمان بشكل شبيه لما تفعله العقارات المخدرة (وهو ما قد يفسر ظاهرة التعلق الشديد بالمحبوب ومشاعر النشوة العاطفية)، وتستحث أخرى المراكز العصبية المرتبطة بالاستحواذ والهواجس والسهر وتسارع النبض (وكلها أعراض مرتبطة بظاهرة الحب المتعارف عليها).
بمناسبة الحديث عن الأسس العلمية للعاطفة، أود أن أقترح نموذجاً رياضياً للحب يرتكز على آليات التفاضل والتكامل التي وضعها نيوتن لمعالجة التحليل والتجميع الرياضي؛ التحليل أو "التفاضل" يستخدم لاشتقاق الوضع اللحظي من معادلة علاقة مستمرة، والتجميع أو "التكامل" يستخدم لتجميع دالّات الوضع اللحظي المتعاقبة للحصول على معادلة علاقة مستمرة، وحيث إنه من الممكن نظرياً تمثيل أية علاقة – بما في ذلك العلاقة العاطفية – بمعادلة رياضية فإنه يمكننا اشتقاق دالّة اللحظة الآنية من معادلة العلاقة المستمرة باستخدام آلية التفاضل، وأدّعي هنا أن هذا الاشتقاق اللحظي يمثل الغاية العاطفية لكثير من العشاق ممن يرون في الحب لحظة نشوة عاطفية تطلب لذاتها، في حين يمثل التكامل منظور العشق لآخرين غايتهم دمج مجموعة اللحظات العاطفية في علاقة مستمرة، ومن وجهة نظري فإن الرجال أميل أن يكونوا "تفاضليين"، وأن النساء أميل أن يكن "تكامليات" في علاقاتهن العاطفية في حين تبقى المعادلة الأساسية ثابتة.
لكن هل هناك معادلة رياضية للحب؟ (تتطلب الإجابة هنا حداً أدنى من المعرفة بالرياضيات).
يعتقد الكاتب هوزيه تايبيريوس ذلك لكنه وفي كتابه "معادلة الحب" لا يقدمها لنا بشكلها النهائي، بل يكتفي بتحديد بعض عناصر المعادلة والعلاقات النسبية بينها، أنا شخصياً أظن أنه إن كان هناك معادلة للحب فيجب أن تكون معادلة تفاضلية بحيث تعتمد على معدلات تغيير لا ثوابت، وأن تكون تفاضلية جزئية بحيث تعتمد على أكثر من متغير مستقل، وأن تكون تفاضلية غير خطية؛ كونها غير قابلة للحل معظم الأحيان إلى جانب شمولها لظاهرة جناح الفراشة؛ حيث يؤدي أي تغيير مهما كان صغيراً في الظروف الابتدائية إلى تغيرات هائلة في النتيجة.
ولا يكتمل الحديث عن علوم الحب دون استدعاء علم الفيزياء، ولعل الفيلسوف اليوناني إبمديكولس كان من أول من تحدث عن الحب في سياق "فيزيائي" باعتباره العنصر الأساسي الخامس، وإحدى قوى التجاذب الطبيعي، أما حديثاً فيمكن إلحاق ظاهرة الحب بأكثر من مفهوم فيزيائي ربما أهمها علاقة الوعي بالواقع، ففيزياء الكمّ تخبرنا أن الواقع الموضوعي غير قائم بذاته، وأن تفاعل المراقب معه يسهم في تجسيده، ولا أقرب لهذا المفهوم من تأثير العلاقة العاطفية في إعادة تشكيل الواقع لدى المشاركين بها، ومن هذا المنطلق تحدث عالم النفس والفيلسوف هنري غايرسون في كتابه "فيزياء الحب" عن دور أفكار المحبين غير المعلنة في إعادة هيكلة الواقع بما يتوافق مع مشاعرهم، إضافة لما سبق فإن فكرة توحّد العاشقين في ذات واحدة والترابط غير المرئي بينهم تتداخل بشكل ما مع مبدأ التشابك الكمي في الفيزياء والتي تعتبر الواقع المادي شبكة غير مرئية من العلاقات يتم من خلالها التواصل لحظياً، وليست هذه الرؤية بعيدة عما تحدث عنه أفلاطون وابن حزم كما ورد سابقاً.
ويبقى لنا هنا أن نعرّج على "الحب الحاسوبي" إن جاز لنا التعبير، ففي فيلمه "الذكاء الاصطناعي" يقدم المخرج سبيلبرغ شخصية الصبي ديفيد وهو طفل آلي تم تطويره كبديل لتعويض أم عن طفلها المريض، وقد مُيّز هذا الطفل عن غيره من الآليين بأنه قد تمت برمجة العاطفة ضمن دوائره المنطقية، وتشير أحداث الفيلم إلى تطور وعي إنساني لدى ديفيد؛ حيث أصبحت غايته أن يتحول لطفل إنساني ليحظى مرة أخرى بحب الأم التي أهملته بعد عودة ابنها الحقيقي، وأعتقد أن الفيلم قد قدم وجهة نظر فريدة تقوم على مفهوم أن الحب أو العاطفة هي أساس الوعي وليس العكس، عملياً أرى أنه لا يمكن بالاعتماد على تقنيات الحاسوب المتوفرة حالياً والقائمة على خوارزميات أرسطية تقليدية أن تشحن بالعاطفة دوائر الحاسوب الكهربائية، ولكن هذا لا يعني أن حواسيب مستقبلية مبنية على تقنيات مختلفة كالشبكات العصبية ستكون محدودة بنفس الطريقة.
ويبقى السؤال الأساسي عن ماهية الحب قائماً؛ إذ ربما لا يتجاوز ما ذكر سابقاً أعراض الظاهرة ولم ينفذ لجوهرها، أو كان الحب جميع ما ورد أعلاه من زوايا رؤية مختلفة، أنا شخصياً من أنصار القول بأن الحب هو تجربة معنوية شخصية لها تجسدات مادية كالتي تم وصفها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.