لم يكن اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمدينة القدس عاصمةً للكيان الصهيوني مجرد وفاءٍ منه بوعدٍ كان قد قطعه على نفسه أمام ناخِبيه، قُبيْل انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وإنما لأن هذا الرجل الذي لم ينشغل يوماً بالسياسة قبل وصُوله إلى البيت الأبيض، لا يَعي ولا يُدرك ما تعنيه مدينة القدس، برمزِيَّتها الدينية والتاريخية، عبر العصور المختلفة، بالنسبة للمسلمين وللمسيحيين على حد سواء.
لقد انطلق ترامب في تصوّره للقدس، من عقلية التاجر ورجل الأعمال، الذي تستهويه الصفقات التجارية، والعُقود المغرية في عالم المال والأعمال، بحكم امتلاكه للعديد من الشركات التجارية، التي كان يديرها قبل وصوله للبيت الأبيض، ولذلك نظر إلى مسألة الاعتراف بالقدس كعاصمة أبدية للدولة العِبرية، على أنها واحدة من تلك الصفقات الكبيرة والمهمة في حياته، ظناً منه أن صفقة كهذه ستطيل من أمد بقائه متربعاً على كرسيّ العرش في البيت الأبيض على المدى المنظور.
ترامب الذي أراد -على ما يبدو- بتلك الخطوة المتهورة، وغير محسوبة النتائج، أن يُكافئ جماعات الضغط السياسي داخل الولايات المتحدة الأميركية، على الدعم الكبير الذي قدموه له أثناء حملته الانتخابية.
لربما كانت مظاهر الفرحة والابتهاج التي رأيناها على وجوه رئيس حكومة الليكود بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه ليبرمان، أكثر ساسة إسرائيل تطرفاً، أمراً طبيعياً وغير مستغرب، لكن الغريب والشاذ واللافت، بحسب تعبير ديفيد هرست -الكاتب البريطاني الأشهر- قد أتى "من جيلٍ جديد من الأشقياء الخليجيين من الشباب، الذين لا يُظهِرون التوقير والاحترام، ويُمارسون التفحيط، ويلتقطون صور السيلفي أمامك، ثُمَّ تجدهم يَظهرون في انقلابٍ ما قريب منك".
في إشارة من الكاتب لوليَّي العهد، والحاكمين الفعليين لدول المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وكذلك مصر والبحرين، كما أضاف الكاتب بالقول في وصف هؤلاء جميعاً بأنهم "ينظرون إلى الليكود باعتباره شريكهم الطبيعي، وإلى غاريد كوشنر باعتباره محاوِرهم الحصيف"، والذين لولا دعمهم وتأييدهم، لما تجرأ الرئيس الأميركي في التصريح بذلك الإعلان المشؤوم.
في الوقت الذي كان فيه الرئيس الأميركي يُعلن القدس عاصمةً أبديةً للكيان الإسرائيلي، كان وليا العهد السعودي والإماراتي مشغولين بفضيحة شراء لوحة الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي، التي كشفت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، بناءً على معلومات حصلت عليها من المخابرات الأميركية، أن المشتري الحقيقي لها هو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي قالت بأنه اشتراها بمبلغ 450 مليون دولار أميركي، في الوقت الذي قال فيه للمواطنين السعوديين بأنه يشن حملة ضد الفساد داخل بلده، بعد أن اعتقل العديد من الأمراء ورجال الأعمال داخل المملكة، فيما أعلن متحف اللوفر الذي افتُتِح مُؤخراً في إمارة أبوظبي أن دائرة الثقافة والسياحة بالإمارة هي من اشترت اللوحة.
وأياً كان المشتري لتلك اللوحة، فإن ذلك يؤكد مقدار الخواء والسَّفَه، الذي تعيشه تلك الشخصيات الصِّبيانية المُراهقة، التي تقود شعوبها وشعوب المنطقة اليوم إلى عالم المجهول، بعد أن أتمَّت صفقتها مع ترامب مقابل لا شيء، ليُعلن هو بالنيابة عنها ما لم تجرؤ هي على الإعلان عنه أمام شعوبها.
قرار ترامب بأن القدس عاصمة لإسرائيل معناه باختصار أن ما يُسمى بعملية السلام في الشرق الأوسط قد ماتت وتم دفنها، ولا حلَّ للفلسطينيين إذاً، ولشعوب المنطقة العربية والإسلامية، ومعهم كل شرفاء العالم، أمام كل هذا العبث وهذا الإسفاف والتجرؤ على المقدسات والرموز الدينية، سوى القيام بانتفاضة شعبية ثالثة، لأجل القدس والأقصى، والانتصار لقضية العرب والمسلمين الأولى، وإعادتها إلى صدارة المشهد، كما حدث في الانتفاضة الثانية، يوم أن دنَّست أقدام أرئيل شارون باحة المسجد الأقصى، في الـ28 من سبتمبر/أيلول من عام 2000م.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.