بعد أكثر من قرن على أحداث الحرب العالمية الأولى، عادت قضية "السفربرلك" إلى الواجهة، على خلفية ردود الرئيس التركي ومتحدثه الرسمي على وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، بعد قيام الأخير بإعادة نشر تغريدة تتهم فخر الدين باشا، والي المدينة المنورة العثماني إبان الحرب العالمية الأولى، بسرقة آثار المدينة وتهجير سكانها وارتكاب جرائم بحقهم في رحلة "السفربرلك".
ويعود الجدل حول القضية نتيجة تضارب الروايات حول دور القائد العثماني فخر الدين باشا وعلاقته بالحصار الذي فرضه الإنكليز وحلفاؤهم على المدينة التي كانت ولاية عثمانية، وتأثُّر سكان المدينة بالحصار واضطرار بعضهم إلى الهجرة باستخدام سكة حديد الحجاز التي تربط المدينة المنورة ببلاد الشام والأناضول وإسطنبول.
هل تعلمون في عام1916قام التركي فخري باشا بجريمة بحق أهل المدينة النبوية فسرق أموالهم وقام بخطفهم واركابهم في قطارات إلى الشام واسطنبول برحلة سُميت(سفر برلك)
كما سرق الأتراك أغلب مخطوطات المكتبة المحمودية بالمدينة وارسلوها إلى تركيا.هؤلاء أجداد أردوغان وتاريخهم مع المسلمين العرب pic.twitter.com/lEynzANQiV
— د. علي العراقي (@ali11iraq) December 16, 2017
بينما تعتبر الرواية العثمانية أن الرحلة كانت بغرض الحفاظ على السكان والآثار والأمانات المقدسة في أثناء الحرب.
وبالتزامن مع تصريحات الرئيس التركي، نشر الأرشيف العثماني، التابع لمديرية أرشيف الجمهورية التركية، وثائق تتعلق بالقائد العسكري العثماني فخر الدين باشا تُظهر قيامه بالدفاع عن المدينة المنورة، وتوزيع المساعدات المالية، وخاصة القمح، على سكان المدينة إبان محاصرتها، من قِبل الجيش البريطاني المدعوم من بعض القبائل العربية المتحالفة معه.
أصل التسمية
يدور الجدل حول أصل كلمة "السفربرلك"؛ فبينما يقول بعض الكُتاب إنها تعني "التهجير الجماعي"، يعتبرها القاموس العثماني مرادفةً للتحضير للحرب أو "النفير العام"، وعندما تقترن بها اللاحقة العثمانية "لك" يكون معناها "التعبئة استعداداً للحرب"، حسب نجوى القطان أستاذة التاريخ في جامعة لويولا ماريماونت؛ إذ يشير المصطلح إلى التعبئة في زمن الحرب، خصوصاً خلال حرب البلقان الثانية 1913 والتي كانت مقدمةً للحرب العالمية الأولى عام 1914، حيث أعلن المسؤولون العثمانيون المحليون والإقليميون بدء التجنيد الإجباري للشباب في الحرب، وإرسالهم إلى جبهات القتال، مستخدمين تعبير "سفربرلك".
ماذا تقول الروايات العربية؟
تقول الروايات ببلاد الشام إن الشباب كانوا يهربون من التعبئة الإجبارية في زمن الحرب العالمية الأولى، وإن كثيرين لم يكونوا مقتنعين بمنطقية الحرب ومبرراتها، واختبأ بعضهم خلال التجنيد الإجباري أو خلال المعارك. وفي المقابل، أرسلت الحكومة من يتجول في شوارع المدينة للقبض على الشبان الفارّين، وقيل إن المسؤولين حملوا الحبال معهم لتقييد المقبوض عليهم.
وتنسب روايات عربية للمؤرخ المديني أحمد أمين مرشد، أن "حالة الاستنفار والتعبئة للحرب شملت عمليات تهجير لسكان المدينة، أثرت على البنيان الاجتماعي والعائلي؛ إذ تم نقل نساء وأطفال في القطار إلى بلاد الشام والعراق وتركيا، وعانت المدينة حصاراً خانقاً؛ للضغط على حاكمها العثماني، عمر فخر الدين المعروف باسم فخري باشا، من قِبل قوات الإنكليز والشريف حسين وبعض القبائل المتحالفة معهما".
وكان فخري باشا قد رفض تسليم المدينة للإنكليز، وقاتل أكثر من سنتين ونصف السنة (ما بين 1916 و1919) رغم إمكاناته المحدودة والأوامر الصادرة له من إسطنبول بتسليم المدينة، حتى اضطر إلى الاستسلام وأسره الإنكليز واحتجزوه في مالطا، ثم جرى الإفراج عنه عام 1921.
وتختلف الروايات حول أسباب هجرة أهالي المدينة؛ إذ تعتبر روايات المنادين بـ"الثورة العربية الكبرى" أنه تهجير وإخلاء للمدينة؛ لإحكام السيطرة العسكرية عليها، بينما تقول مصادر عثمانية إنه أراد تجنيب المدنيين ويلات الحصار، بنقلهم إلى بلدان آمنة في الشام والأناضول عبر سكة حديد الحجاز.
وقد تناول كثير من المؤلفين والأدباء العرب ما اعتبروه "مأساة سفربرلك"، وضمن ذلك المجاعة الشهيرة التي طالت بلاد الشام في عام 1916 خلال الحرب العالمية الأولى، ونقص المواد الغذائية، سواء عند الجنود أو السكان الذين عاشوا بظروف بائسة في أثناء الحرب. وكذلك ظهر "السفربرلك" في الأفلام؛ إذ أنتج الأخوان الرحباني فيلماً في الستينيات، ويصور الفيلم عدلا (التي تقوم بدورها الفنانة الشهيرة فيروز) مع جدتها بقريتها في أثناء انتظارها حبيبها عبدو، الذي قبض عليه العسكر العثماني للمشاركة في أعمال الحرب. وفي أثناء رحلتها للبحث عنه بقرية عمتها، تكتشف أن عمتها ومختار القرية يقاومان العثمانيين، بينما ابنة عمتها واقعة في حب عسكري لبناني يخدم بالجيش العثماني.
ماذا تقول الوثائق العثمانية؟
تشير وثيقة عثمانية مؤرخة في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1915، بأن فخرالدين باشا أكد في إخطار خطي على ضرورة تسديد مبالغ ينبغي تحويلها للمصادر التي توزع القمح على السكان المحتاجين في المدينة المنورة إبان الحصار.
ولم يتخلَّ فخرالدين باشا -حسب الوثائق العثمانية- عن الدفاع عن المدينة رغم نقص العتاد والتجهيزات العسكرية، والمواد الغذائية، حيث أمر الجنود بأكل الجراد والصمود لمواصلة مقاومة الإنكليز.
وفي وثيقة أخرى مؤرخة في الأول من سبتمبر/أيلول 1916، أشار فخر الدين باشا، في مراسلة مع القيادة، إلى أن "المبالغ المرسلة لحماية المدينة، ستكون غير كافية؛ لأنه سيتم توزيع نقود على السكان المسلمين المحتاجين في المدينة".
كما أن وثيقة تعيين فخرالدين باشا، الذي كان قائد الفيلق الثاني عشر آنذاك، بمنصب قائد للقوات العثمانية بالحجاز في 20 مايو/أيار 1916، محفوظة في الأرشيف العثماني.
ويشير كتاب أرسله فخر الدين باشا خلال تولي مهامه، يُعلم القيادة في إسطنبول، بتاريخ 21 أغسطس/آب 1917، بمراسم افتتاح شارع بعرض 20 متراً، في جهة باب السلام من الحرم النبوي الشريف، بميدان المناخة في المدينة المنورة، وتصادف الافتتاح مع عيد الفطر المبارك حينها.
وتظهر الوثائق التاريخية المذكورة، الحقائق جلياً بأن فخرالدين باشا كان إبان حصار القوات البريطانية للمدينة المنورة، يراعي الاحتياجات الغذائية والمالية للسكان، إلى جانب تلبية احتياجات المدينة الإدارية.
وقال المؤرخ التركي أنس دمير إنّ فخر الدين باشا دافع عن المدينة المنورة عامين و7 أشهر ببسالة وشجاعة، بحسب وكالة الأناضول التركية.
وأوضح دمير أن فخر الدين باشا ظل يدافع عن المدينة المنورة وقبر الرسول، رغم استسلام الجيش العثماني المرابط بالجبهات كافة في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1918، ولم يلتفت إلى أوامر القيادة العثمانية، واستمر في دفاعه عن المدينة.
وأضاف دمير أن مقاومة فخر الدين باشا ودفاعه عن المدينة استمرا 72 يوماً دون أن يتلقى دعماً من أحد، وواصل نضاله لمنع دخول البريطانيين وأعوانهم "المتواطئين" إلى المدينة، رغم النقص الكبير في الغذاء والذخيرة والسلاح.
الأمانات في إسطنبول بدلاً من لندن!
وتابع دمير قائلاً: "البريطانيون سرقوا العديد من الآثار من المناطق التي كانوا يحتلونها، ونقلوا ما سرقوه إلى لندن، وكان فخر الدين باشا يدرك ذلك؛ ولذلك قام منتصف 1918، بجلب الأمانات المقدسة إلى مدينة إسطنبول، وسط إجراءات أمنية مشددة".
وأردف قائلاً: "على اعتبار أنه قائد عثماني، فمن الطبيعي أن يقوم فخر الدين باشا بإرسال الأمانات المقدسة والرموز العائدة للنبي محمد والمسلمين إلى عاصمة الإسلام إسطنبول، وكان محقاً في هذه الخطوة".
وفيما يتعلق بقيام وزير الخارجية الإماراتي بإعادة نشر تغريدة مسيئة إلى الباشا والأتراك، قال دمير: "هذه الخطوة سياسية تماماً، وتعاظُم قوة تركيا ودفاعها عن القدس خلال الفترة الأخيرة، لهما علاقة مباشرة بتصرف الوزير الإماراتي".