تواجه الولايات المتحدة خسارةٍ مُحرِجة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، الخميس 21 ديسمبر/كانون الأول، رغم التعليقات التي أدلى بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي طرح من خلالها أن الدولة التي تُصوِّت ضد بلاده ستواجه تداعيات.
وكانت مصر قد دعت لتصويتٍ في الجمعية العامة بعدما استخدَمَت الولايات المتحدة حق الفيتو لنقض قرار مجلس الأمن الذي رفض اعتراف واشنطن بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل سفارتها هناك. ولا تملك الولايات المتحدة أن تنقض قرارات الجمعية العامة، التي تتطلَّب أغلبيةً بسيطةً في الأصوات من أجل اعتمادها، وفق تقرير لوكالة سي إن إن الأميركية.
وقال ترامب، الأربعاء 20 ديسمبر/كانون الأول: "حسناً، نحن نراقب هذه الأصوات".
وأضاف: "دعوهم يُصوِّتون ضدنا، سنوفِّر الكثير من الأموال. الأمر لا يعنينا. لكن الأمر ليس الآن كما كان عليه في السابق حين كان يمكنهم التصويت ضدك ثم تدفع لهم مئات الملايين من الدولارات ولا أحد يعلم ماذا يفعلون".
وحاولت نيكي هالي، السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، أيضاً الضغط على دولٍ أخرى لعدم التصويت ضد واشنطن، مُتعهِّدةً بـ"تسجيل الأسماء".
لكن إلى أي قدرٍ يبدو هذا التهديد واقعياً؟ وأي حكوماتٍ تلك الأكثر عرضةً للضغط الاقتصادي الأميركي؟
ميزانية دعم عسكري هائلة
على نحوٍ مثيرٍ للسخرية، فإن واحدةً من أكثر الدول عرضةً للضغط المالي الأميركي هي الدولة الأقل ترجيحاً للتصويت ضد واشنطن يوم الخميس في الأمم المتحدة: إسرائيل.
وفقاً للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، فقد تلقَّت إسرائيل من الولايات المتحدة تمويلاً عسكرياً يبلغ قدره 3.1 مليار دولار في عام 2016. أما أفغانستان والعراق، حيث انخرطت الولايات المتحدة عسكرياً في كلتيهما في 2001 و2003 على التوالي، فهما الدولتان الوحيدتان اللتان تلقتا أموالاً أكثر من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون).
وتُعد رابع أكبر دولة في تلقي التمويل العسكري الأميركي أكثر حساسيةً بكثير. تلقَّت مصر 1.1 مليار دولار من برنامج التمويل العسكري الخارجي التابع للبنتاغون، بينما القاهرة هي التي تقود دفعة الأمم المتحدة لإدانة قرار ترامب المُتعلِّق بالقدس.
ويُشكِّل التمويل الأميركي بين 20 و25% من إجمالي الميزانية العسكرية المصرية في السنواتِ الأخيرة، وفقاً لإحصاءاتٍ أعدَّها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. وما مِن دولةٍ أخرى تمنح القاهرة قدراً من المساعدات العسكرية يمكن مقارنته بما تمنحه الولايات المتحدة لها.
وبينما يمكن لهذا الإنفاق أن يكون تمثيلاً جيِّداً لاستراتيجية العصا والجزرة، فإن جزءاً من المساعدات قد عُلِّقَ بالفعل على خلفية مخاوف تتعلَّق بحقوق الإنسان. وهناك خططٌ أُفيدَ بها لمواصلة هذه المساعدات في العام المقبل، لكن ترامب بإمكانه عَكس هذه الخطط.
ومن غير المُرجَّح أن يجري قطع المساعدات على أمدٍ طويل عن الجيش المصري، الذي يدير شؤون البلاد منذ انقلاب 2013. وازداد الإنفاق الأميركي في مصر بعدما وقَّعَت القاهرة اتفاقية سلامٍ مع إسرائيل عام 1979، وتظل مصر ذات أهميةٍ حيويةٍ للمصالح الأمنية الأميركية في المنطقة الأوسع.
مساعدات تنموية خارج البلاد
قد يكون الإنفاق العسكري أكبر هراوةٍ في يد واشنطن، لكن تخفيض هذا الإنفاق هو في الوقت نفسه الأقل الاحتمال الأقل ترجيحاً.
أغلب الدول التي تتلقَّى مساعداتٍ عسكريةٍ كبيرة من الولايات المتحدة تفعل ذلك لأنها دولٌ محوريةٌ بالنسبة للمصالح الأمنية الأميركية – مثل العراق أو أوكرانيا أو باكستان.
لكن، على الناحيةِ الأخرى، تُعد المساعدات التنموية خارج البلاد، مثل تلك التي تُقدِّمها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، هدفاً أكثر ترجيحاً لأن يُخفَض الإنفاق فيه – رغم أن التخفيضات سيكون لها أثرٌ على الشركات الأميركية والمواطنين الأميركيين الذي يعتمدون على المشاريع التي تُموِّلها البرامج المانحة.
ولطالما كان ترامب مُتشكَّكاً تجاه المساعدات الخارجية، مُدَّعياً أن الولايات المتحدة يجري استغلالها في ذلك. ومنذ توليه السلطة، تعهَّد ترامب بخفض المساعدات الأميركية إلى الخارج، التي حين قُدِّرَت بـ43 مليار دولار في السابق كانت تُشكِّل فقط 1 إلى 2% من الميزانية الفيدرالية، أو ما يقرب من 10% مِمَّا أُنفِقَ على برنامج مقاتلات الغارة المشتركة إف 35.
وجاءت دول إفريقية عدة، بما فيها إثيوبيا، وجنوب السودان، وكينيا، ونيجيريا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ضمن الدول العشر الأكبر في تلقي أموال الوكالة الدولية للتنمية الأميركية.
وعلى خلاف دول الشرق الأوسط، التي ستواجه ضغطاً قوياً من الداخل لإدانة القرار الأميركي المُتعلِّق بالقدس، من المُحتَمَل أن تكون هذه الدول الإفريقية أقل انخراطاً في دعم الفلسطينيين.
ومع ذلك، وعلى خلاف دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تُشكِّل المساعدات الأميركية، لاسيما العسكرية منها، قسماً كبيراً من إجمالي المساعدات التي تتلقاها هذه الدول، تتلقَّى الدول الإفريقية تمويلاتٍ كبيرةٍ من مصادرٍ أخرى.
ووفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تتعقَّب إنفاق المساعدات الدولية، فقد تلقَّت إثيوبيا 700 مليون دولار من الولايات المتحدة بين عامي 2014 و2015، مقارنةً بـ800 مليون دولار من البنك الدولي في نفس الفترة، فضلاً عن 526 مليون من المملكة المتحدة، و224 مليون من صندوق الاتحاد الأوروبي.
ولعل دولة جنوب السودان ستكون أكثر قلقاً بشأن خسارة التمويل الأميركي، الذي يتجاوز ما تتلقَّاه من المانحين الأربعة الأكبر بعد الولايات المتحدة مجتمعين، لكن كينيا ونيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية يتلقون سوياً مبالغ كبيرة من مصادر أخرى، لاسيما البنك الدولي والمملكة المتحدة.
وسيكون أي تراجعٍ أميركي عن إفريقيا بمثابة هدية كبيرة للصين، التي تُعمِّق بصمتها وتأثيرها بصورةٍ كبيرةٍ في القارة السمراء. ووفقاً لما ذكرته وحدة AidData لمراقبة المساعدات، فإن بكين تستعد بالفعل لأن تحل محل واشنطن كمانحٍ أوَّلي لكثيرٍ من دول العالم النامي، بالكثير من الإنفاق المُوجَّه إلى دولٍ إفريقية.
وقال نيك بيسلي، وهو أستاذٌ في العلاقات الخارجية بجامعة "لاتروب" الأسترالية، إن أي خطوةٍ من جانبِ الولايات المتحدة لخفض المساعدات الخارجية ستنظر الصين إليها باعتبارها فرصة عظيمة.
وأضاف: "إنْ نفَّذَت واشنطن هذا التهديد فإن الدول التي ستُحجَب عنها الأموال ستتجه نحو بكين"، إذ ينخرط قادة الصين بشكلٍ كبيرٍ "في السوق لكسب أصدقاء ونفوذ".
خرقٌ للأعراف الدبلوماسية
من الصعب تقدير إلى أي مدى من الجدية يمكن أخذ تهديدات هالي وترامب، وما إذا كانت متبوعةً بضغطٍ دبلوماسي من وراء الكواليس على دولٍ معينة للتصويت في صالح واشنطن.
لكن يظل من المستحيل تقريباً على الولايات المتحدة أن تجتذب عدداً كافياً من الدول لتجنُّبِ استنكار الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث لا تتطلَّب قراراتها سوى أغلبيةٍ بسيطة، ولا أن يُحقِّق الضغط الأميركي التأثير الذي تبتغيه واشنطن بالضرورة.
وقال ريتشارد غوان، خبير الأمم المتحدة بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية والمقيم في نيويورك: "إن شخصنة الأمر في ما يتعلَّق بالتصويت مع أو ضد الرئيس ترامب لهو تكتيكٌ غبيٌّ بصورةٍ غريبة".
وقال دبلوماسي أجنبي كبير، تحدَّثَ أمس دون الكشف عن هويته للحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة، لوكالة سي إن إن الإخبارية: "لا يهم مدى قربنا من الولايات المتحدة، فنحن حريصون على الحفاظ على تمسُّكنا الطويل بقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بخصوص وضع القدس".
وأضاف الدبلوماسي: "بالنسبة للكثير من الأعضاء بمجلس الأمن، بالأخص الدول الغربية، فإن أصواتهم تعكس المواقف التي تمسَّكوا بها على مدارِ 50 عاماً في ما يتعلَّق بحلِّ الدولتين ووضع القدس عبر المفاوضات، إلخ. من المفترض لهم الآن أن يتخلوا عن سياسةٍ استمرت 50 عاماً، لأجل ماذا؟".
وقد صوَّتَ كل الأعضاء الآخرين بمجلس الأمن، بمن فيهم حلفاء مخلصون للولايات المتحدة (المملكة المتحدة واليابان)، لصالح القرار المصري مطلع هذا الأسبوع.
وقال بيسلي إن النبرة التي يستخدمها ترامب وهالي كانت "صريحةً وغير مُعقَّدة"، ودالة على افتقار الإدارة الأميركية إلى رؤيةٍ أوسع للشؤون العالمية ودور الولايات المتحدة فيها.
وأضاف: "إنهم ينظرون إلى كل شيءٍ في مداه التفاعلي القريب، بينما لا يرون كيف ستكون لذلك تداعياتٌ سلبية على التأثير العالمي". وتابَعَ: "هناك افتقارٌ حقيقي للتفكير في الصورةِ الكبيرة ولإدراك العالم الكبير المتشابك".
وأضاف الدبلوماسي أن أي ضغطٍ أميركي كبير في هذه القضية قد يعزل واشنطن حين تحتاج دعم الأمم المتحدة في ملفاتٍ مثل قضية كوريا الجنوبية أو إيران.
وقال غوان: "في أغلب الأحيان، يرغب المجتمع الدبلوماسي في نيويورك في دعم التباهي الخطابي لنيكي هالي. لكن هذه المرة مختلفةٌ قليلاً".