وردَ في الحديثِ الصحيح أن أعرابياً بال ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺠﺪ، فركض إليه الصحابة ليزجروه ويقعوا ﻓﻴﻪ، فنهاهم النبي -ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ- عن ذلك وقال لهم: (اتركوه ليتم بولته، ﻭﺃﺭﻳﻘﻮﺍ ﻋﻠﻰ ﺑﻮﻟﻪ دلواً ﻣﻦ ﻣﺎء، ﻓﺈﻧﻤﺎ ﺑُﻌﺜﺘﻢ ﻣﻴﺴﺮﻳﻦ ﻭﻟﻢ ﺗﺒﻌﺜﻮﺍ ﻣﻌﺴﺮﻳﻦ) ﺭﻭﺍﻩ ﺍﻟﺒﺨﺎﺭﻱ.
هذا حديثٌ، وكأني بأكثرِ دعاةِ اليوم ما مروا به ولا سمِعوه، فتراها تقومُ عليكَ الدّنيا ولا تقعد إن حصلَ مرةً وأخطأتَ أمامهم دونَ قصدٍ أو نسيت.
وكأنك الوحيد الذي يخطئ في عالمٍ من المعصومين.
ومهما كان ذلك الخطأ الذي بدر منك صغيراً أو تافهاً، فإنهم سيثورون عليك وكأنك ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد، وكأنهم هم وحدهم الصحابة.
هكذا صار اليوم جميع الذين من حولك، أو هكذا صاروا يظنون أنفسهم، فهم الذين بلغوا من العلم منتهاه، وهم الوعّاظ دوماً، وأنت الجاهل في أحكام دينك ودنياك، ولا عمل لهم في هذه الحياة سوى وعظك المستمر المصحوب باللوم والتقريع في أشياء ربما هم أنفسهم لم يفعلوها وحتى إن فعلوها فأسلوبهم في تعليمها لك ووعظك يجعلانك تنفر وأي وعظ ذلك الذي يستخدموه معك! نعم ربما هو وعظ حسب ظنهم، ولكن التسمية الأصح له هي التنفير.
فالوعظ والنصح لهما أصول أهمها اللطف والرقة والسرية، وتجنب اللوم أمام الجماعة ما أمكن، وقد قال الشافعي -رضي الله عنه- في ذلك: مَن نصح أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن نصحه علانيةً فقد فضحه وشانه.
والكارثة هي أن رجال الدين ليسوا وحدهم من وقع في ذلك الخطأ الجسيم، بل كلنا اليوم شركاء فيه، وكلنا ودون أن نشعر لبسنا جلباب الواعظ (المنفّر) مع عوائلنا وطلابنا، وكل من حولنا، ولنا كلمة عليه أو قوامة، وهذا الأمر بالغ الخطورة في هذا العالم المفتوح اليوم، فلو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك.
ثم إن الأبواب بعد ذلك أمامهم كلها مفتوحة، وإن اتجهوا إلى الطريق الخطأ فأنت وأسلوبك وحدكما الملومان ولا أحد غيركما.
وربما قصة المراهق معروفة، ذاك الذي كان مداوماً على الصلاة في المسجد، ثم حصل أنه ارتكب مرة خطأً صغيراً في الصلاة، فوجد على أثره تقريعاً ومعاملة فيها جلف من المشايخ هناك، فاعتزل بعدها المسجد ثم أحس بفراغ وأراد ملء فراغه، فوجد أبواب الإثم كثيرة أمامه وتنتظره وأسلوبها ألطف ومعاملتها أرق وأفضل، فكانت النتيجة في النهاية أن أدمنَ الخمارة واعتزل المسجد.
هي نتيجة طبيعية للأسلوب الخاطئ، حتى وإن كان الهدف منه تعليم الفضائل، فالناس -وأخصّ المراهقين منهم- يميلون إلى أسلوب الرسالة أكثر من محتواها، وقد قال الله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)، قالها للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو النبي المؤيد بالآيات والقرآن والمعجزات، فكيف بنا نحن المساكين الذين لا حول لنا ولا قوة، ولا شيء نمتلكه إلا ألسنتنا التي إن أسأنا استخدامها قتلتنا أو قتلنا بها من دون قصد من نحب؟
وبالرغم من كوننا نحبهم، فإننا بلومنا نؤذيهم وننفرهم، وربما كانوا أعز الناس إلينا مع أن الله -سبحانه وتعالى- حتى فرعون الطاغية ما أمر بدعوته بأسلوب جلف وهو أعتى عتاة الأرض، والذي تحدّى الله علناً، وقال: أنا ربكم الأعلى، ولكن الله -سبحانه وتعالى- رغم ذلك قال: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى)؛ لأنّ الدعوة لا يمكن أن تكون بالخشونة، ولا من دون القول اللين.
نعم هو القول اللين وليس غيره ما ينقذنا وينقذ أمتنا اليوم مما هي فيه، وعلينا أن نتذكر أن بديل القول اللين لأبنائنا هو ذهابهم إلى أبواب الخطأ والضلالة، وما أكثرها، ولنتذكر دوماً أن أبناءنا لنا ونحن أحق بهم من الماسونية، التي هي البديل القوي، اليوم، الناعم الملمس خبيث الغايات.
ولْنفهم بعد كل ما وصلنا إليه من خسائر بسبب فظاظتنا وأسلوبنا الخاطئ أن الخشونة يستحيل أن تكون هي الحل، والسنوات الأخيرة خير شاهد على ذلك، وما فعلته داعش ومثيلاتها بالإسلام وما قدمته لأعدائه هو برهان أيضاً، فداعش قدمت خدمات جليلة لأعداء الإسلام حين ادعّت أنها تطبق شرائع الدين بأسلوب منفر أساء للدين وخسرها الحاضنة بالرغم من استدلالها على ما قامت ببعض الأدلة والآيات البينات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.