جُبل الإنسان على التسرع وحبّ الاختصار، وتفضيل ردود الأفعال العاطفية السريعة على المسارات الفكرية الطويلة والمملّة؛ لذلك نجد أغلب المنظرّين والسياسيين، يبتدئون أطروحاتهم وبرامجهم الانتخابية بفكرة أنها الحل الشامل والأوحد في ظل ظروف زمكانية معينة، غير أن ذلك لا يعدو أن يكون ادعاء فجاً بغية تسويق فكرة أو منظومة منهجية لأكبر عدد من المتلقين، ويتعمق الحيف أكثر حين يرتبط الأمر بما هو مقدَّس، ويصبح الحل والخلاص التام في الدين؛ ليزج بالجميع في حلقات مفرغة من ضعف الحجة وسطوة العاطفة الجياشة، فيتخذ كل ذي رأي معسكراً ينشر فيه أفكاره، ويطوع الواقع للتماشي مع ما خطه عرّاب هذا التيار أو ذاك.
الشيء الذي عايناه مع التيارات الأيديولوجية الكبرى لعصرنا الحديث، المتمثلة في التيار الاشتراكي والرأسمالي كقطبين عايشا مرحلة التبني السياسي، والتطبيق على أرض الواقع، وما صاحب ذلك من صراع فكري وعسكري في فترة ما يعرف بتوازن الرعب وازدواجية القطبية، والتيار الإسلامي الذي يعيش حتى هذه اللحظة مخاض تكوّنه العسير.
لكن السؤال اليوم هو: لماذا تفشل كل هذه التجارب وتخلص في الغالب إلى نتائج على النقيض تماماً من مبادئها الأساسية، التي أوجدت من أجلها؟
تطور الفكر الإنساني عبر محطات ومراحل عدة، تعاقبت على اقتراح حلول وبدائل لمثبطات التنمية والتقدم في كل حقبة، من أهمها الفكر التنويري الذي قام على أساس الحرية والحقوق للجميع، في مقابلة الامتيازات الموروثة، وسطوة الكنيسة على السلطة والمجال التنفيذي، ويعتبر الفيلسوف الإنكليزي جون جاك روسو عرّاب هذا الفكر الثوري آنذاك، حيث نادى بالحق الطبيعي للإنسان في الحياة، والحرية، وحق التملك، ووجوب احترام والتزام الحكومات بذلك عن طريق العقد الاجتماعي.
وهو الفكر الذي عُرف عبر مراحل تطوره بالفكر الليبرالي الرأسمالي، الذي طبع نظم الحياة منذ أواسط القرن السابع عشر إلى يومنا هذا، وخصوصاً بعد أن كان هو المنتصر في الحربين العالميتين الأولى والثانية، واكتسب هذا الفكر شعبية أكبر بعدما تبناه الفلاسفة الاقتصاديون من أمثال آدم سميث، ودافيد ريكاردو، وج.ب.دو ساي، واعتمدوا على مبادئ حرية امتلاك وسائل الإنتاج والتبادل الحر في إطار السوق الحرة، والتنافسية التامة بين الفاعلين الاقتصاديين.
أما في الجانب الأخلاقي فقد تركت فيه الحرية للفرد، ما لم يتعدّ دائرة مساحته الشخصية، أي أنهم اعتمدوا مبدأ نسبية الأخلاق، في جُل التعاملات الإنسانية من سياسة واجتماع واقتصاد، غير أن هذا التيار عرف تحولاً تقنياً وفنياً بعد أزمة سنة 1929، وهي ما تعرف بأزمة الكساد العظيم مما اضطر معه المنظر الاقتصادي الفذ ج.م.كاينز إلى أن يقترح حل تدخل الدولة في الاقتصاد، عن طريق السياسات الاقتصادية بغية الخروج من عنق الزجاجة وتجاوز الأزمة، الشيء الذي نجح فيه بعد تبني الرئيس الأميركي ف. روزفلت لهذا التعديل سنة 1933، غير أن هذه الخطوة أجهزت تماماً على نظرية الليبرالية الكلاسيكية، القائمة على عدم تدخل الدولة في مجريات السوق، التي من المفروض أن تنصاع لقانون العرض والطلب، الكفيلين وحدهما بتنظيم سيرها الطبيعي؛ لتتحول الدولة في هذا النظام من مراقب إلى متدخل وموجّه للاقتصاد.
ويعتبر هذا التعديل هو ما أطال عمر النظام الرأسمالي إلى حدود الأزمة المالية لسنة 2007، وحلولها الترقيعية التي أسفرت بشكل جليّ عن قصور النظرية الليبرالية وتوجهها الاقتصادي، فضلاً عن الاجتماعي والسياسي.
أزمات اقتصادية وظواهر اجتماعية استدعت النقد الاشتراكي للسياسات الليبرالية من جديد، وإعادة اقتراح الحل الماركسي الذي ضمّنه كارل ماركس في كتابه رأس المال وتبعه فيما بعد صديقه ف.إنجلز، والذي يقوم على الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج الأساسية، من أجل تلبية حاجات المجتمع على الوجه الأمثل.
والقاعدة الاقتصادية الأساسية في هذا النظام هي إلغاء التقسيم الطبقي في المجتمع وإلغاء استغلال الإنسان للإنسان، بهدف تحقيق العدل والمساواة بين أفراد المجتمع.
وقد تعددت المذاهب والنظريات التي تناولت الفكر الاشتراكي، إلا أن النظرية الماركسية اللينينية وحدها هي التي نقلت هذا الفكر إلى الواقع وكانت الأساس الذي قامت عليه أنظمة اشتراكية سادت بلداناً عدة في القرن العشرين، ولذلك فإن البحث في أسس النظام الاشتراكي ومرتكزاته يعني في جوهره نظرة الماركسية اللينينية إلى هذا الموضوع.
وتتعارض الاشتراكية تعارضاً جذرياً مع الرأسمالية؛ لأن القضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج واستبدال الملكية الاجتماعية بها، يؤدي إلى تغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمع، وبعد أن كان هدف الإنتاج في النظام الرأسمالي هو تحقيق الربح لمالكي وسائل الإنتاج باستغلال الطبقة العاملة والكادحين، يصبح هدف الإنتاج في النظام الاشتراكي تلبية حاجات أعضاء المجتمع المادية والروحية، ووضع حد للاستغلال.
ويفرض هذا النظام واجب العمل على الجميع؛ لأن "من لا يعمل لا يأكل"، وبذلك يتحول المجتمع من مجتمع متناحر، إلى مجتمع يوحد مصالح المنتجين والعاملين.
غير أن هذا التوجه لم ينجح في إثبات جدارته على أرض الواقع، بالرغم من تبنيه من طرف العديد من الدول حول العالم، ويؤخذ عليه أيضاً أن أول مَن حاول تطبيق الفكر الماركسي، هو أول مَن حرفه، وذلك مما يزعمه منتسبو هذا التيار إلى يومنا هذا، أن النظرية الاشتراكية الماركسية كما هي، لم تطبق بعد ولم تأخذ فرصتها كاملة، ويغفلون أنه ربما بعض تلك المبادئ مستحيلة التطبيق أساساً، ومن الصعب أن تراوح صفحات الكتب؛ لأنها وببساطة تلغي مبدأ أصيلاً وحاجة أساسية في الإنسان على مر العصور ألا وهي خصائص التفرد والتميز والتملك.
بين هذا وذاك يلقي الفكر الإسلامي بظلاله على مجريات الأحداث ويقترحه منظّروه على أنه هو الحل الشافي، والجواب الوافي لكل ما سلف من الاضطرابات والنقائص، وخصوصاً في مجال الاقتصاد الإسلامي، غير أن ذلك يظل نزعات عاطفية في غياب رؤى نقدية واضحة، ومعالجة علمية ومنهجية لمختلف ظواهر المجتمع العصري.
لا ننكر أن القطاع المصرفي الذي يعتمد نسبة الفائدة الضعيفة إلى منعدمة هو الأكثر صموداً إبان الأزمة المالية، والتي حققت أعلى رقم معاملات في السنوات الأخيرة، إلا أنه لا يمكن تأسيس نظام اقتصادي كامل مرتكز على مبدأ الفائدة فقط.
يقوم الفكر الإسلامي على مبادئ مستقاة من الكتاب والسّنّة من قبيل الرقابة في الاقتصاد، والمصلحة بين الفرد والمجتمع، والتوازن بين الروح والمادة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.