إلى ابني الحنون “6”| أنا والنَّاسِك

كنت عندما أشد الرحال صوب الجامع، غالباً ما أجد ناسكاً وهو يجلس في زاويته المعتادة القريبة من المحراب بلحيته الحمراء المنكفئة على صدره وعمامته البيضاء التي يتدلى آخرها طويلاً حتى أسفل ظهره وهو يقرأ القرآن، مُضفياً على المكان مزيداً من السكون والوقار، كان ذلك منذ سنوات بُني الغالي.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/18 الساعة 01:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/18 الساعة 01:38 بتوقيت غرينتش

بُنيّ الحبيب، بحر الأسبوع الفائت ذهبتُ إلى شيخٍ ناسكٍ أسأله، أيام المطر لطالما شددتُ الرحال في أوقات مضت إلى ذاك الجامع الصغير الحجري الأثري الذي يجثم وحيداً على ضفاف شارع زراعي أيام كنا عائلة واحدة، حين كان يزورني الهمّ وضيق النفس، كنت أجلس وحدي في هذا الجامع الذي يستقبل مُصلِّياً أو اثنين على الأكثر، كان هادئاً وساكناً، كنت لا أسمع سوى حفيف الشجرة التي بدا أنها نبتت صدفة على يمين الجامع، وكأنها تحتضنه في وحدته تلك، ذاك السكون الذي كان يبعد همومي عن فكري وأنا أجلس ملتصقاً بالحائط البارد مغمضا عينيّ كان يبدده صوت شاحنة أو مركبة وهي تعبر كل ساعة من الزمن الطريقَ خلف الجامع قبالة نتوء المحراب.

كنت عندما أشد الرحال صوب الجامع، غالباً ما أجد ناسكاً وهو يجلس في زاويته المعتادة القريبة من المحراب بلحيته الحمراء المنكفئة على صدره وعمامته البيضاء التي يتدلى آخرها طويلاً حتى أسفل ظهره وهو يقرأ القرآن، مُضفياً على المكان مزيداً من السكون والوقار، كان ذلك منذ سنوات بُني الغالي.

هذه المرة ذهبتُ إلى الجامع الوحيد؛ كي أكلم هذا الناسك في مرة هي الأولى، فأنا لم يسبق لي أن دار بيني وبينه أي حديث، رغم أننا كنا نجلس في الجامع لساعات ونصلي أحيانا معاً عندما يحين الفَرض.

ذهبتُ بُنيّ لأسأل هذا الناسك سؤالاً ظل يراودني طويلاً، في كل ركعة أدعو الله أن يَرُدّ أولادي إليَّ رداً جميلاً، هل هذا يؤثر على صحة صلاتي؟

أحياناً أقرر قبل أن أبدأ الصلاة بأن أتوقف هذه المرة عن تكرار الدعاء، لكنني -بُنيّ الحبيب- لا أنفك أنسى فعل ذلك في كل مرة؛ توجستُ ريبة من أن يتحول دعائي إلى جزءٍ من صلاتي دخيل.

وجدت الجامع وكأنه ينتظرني، كان قد كُسر فرع من الشجرة أيضاً، ولكنها ما زالت حية تحتضن جامعها، وكما في السابق وجدت الباب مغلقاً لكنه ليس موصداً، فتحته ودخلت وشممت ذات الرائحة التي كانت توحي لي بقدم المكان، بدا ذلك وكأن أحداً لم يدخل الجامع منذ زمن، كان الغبار يغطي كثيراً من الأسطح ورفّ المصاحف الوحيد، جلست في ذات المكان الذي لطالما جلست فيه بالسابق وأسندت ظهري ورأسي إلى الحائط البارد.

انتظرت طويلاً ولم يظهر الناسك، أين الناسك؟ وماذا حلَّ به؟ لم يدخل أحد إلى الجامع وبقيت حتى المغرب وصليت فرضه وحيداً على ضوء هاتفي النقال، فلا يوجد تيار كهربائي في المسجد، وكما تعلم -بُنيّ- فالفصل شتاء وتغرب الشمس تماماً في هذا الوقت ويصبح الفضاء معتماً.

توجَّستُ ريبة، ورقص فؤادي في صدري، واقشعَرَّ بدني وأنا أقف أصلي وحيداً وسط هذا السكون العميق والعتمة، تركتُ الجامع ورحلت دون إجابة، ما إن انتهيت.

تحياتي لك.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد