اسم في سماء الفن يتلألأ كالنجم الساطع، يحمل معه ذكريات ونغمات تتردد في الآذان، قدَّم فناً راقياً من زمن الفن الجميل، روح من جمالها تجتمع الأجيال جميعها على حبها، أصيلة كأصالة زمنها؛ لذلك يحق للقلب أن ينقبض لخبر فقدانها، فحبها يسكن فينا، وقوة إيمانها رسَّخت ذلك الحب في كل القلوب.
تركتنا الدَّلوعة، مَنْ كانت صوتها يطير في سماء خيالنا، فارقت الحياة، ولكنَّها لن تفارق قلوبنا.
شادية.. هو الاسم الذي ارتضته السينما لها؛ لجمال صوتها، فهي شادية العرب، ولكنَّ اسمها الحقيقي فاطمة أحمد كمال شاكر، وُلدت ورحَّبت بها الدنيا يوم 8 فبراير/شباط لسنة 1931م.
وهي من مواليد محافظة الشرقية في منطقة الحلمية الجديدة، وكان والدها مهندساً زراعياً كبيراً مختصاً بالاهتمام بالزراعة والأراضي التابعة للملك والأمراء والأعيان، ولهذا انتقل للقاهرة ليكون بالقرب من كل ذلك.
ووالدها له دور كبير في الاهتمام بموهبتها التي اكتشفها عن طريق الصدفة، ومن يومها وهو مهتم بجمال صوتها وتقديمها لكبار الملحنين.
وفي أحد اللقاءات الإذاعية قالت شادية: إن والدها أخذها لبيت أم كلثوم؛ ليعرض صوت ابنته عليها وهل بإمكانها أن تُكمِل طريقها في الغناء، وعندما سمعتها أم كلثوم أعجبت بصوتها وطمأنت والدها الذي كان على وجهه كل علامات الامتنان والشكر لأم كلثوم؛ للسماح لهم بتلك الفرصة الكبيرة، وكان ذلك هو الدافع الأكبر لشادية بأن تكمل طريقها الغنائي.
ومنذ ذلك اليوم ونظرات الإعجاب بصوتها تحيط بها، وكانت الاسم الأول الذي يطلبه المنتجون لمدة أربعين عاماً قضتها في مجال الفن، أضافت فيها للسينما المصرية خاصة، والعربية عامة، وكانت كالكروان الذي يجذب الناس بسحر صوته للاستماع إليه.
أهدت للفن ما يزيد على 112 فيلماً و15 مسلسلاً إذاعياً ومسرحية واحدة.
واستطاعت باختلافها أن تكون حقاً نجماً يتلألأ فارضاً نفسه وبقوة في سماء الفن، فشادية كانت تعطي لكلمات أغانيها معاني فوق معانيها، وقامت شادية بموهبتها التمثيلية بكافة الأدوار التي تقدمها السينما حتى الكوميديا فقد أبدعت فيها، فتنوع أدوارها هو كان سبب اختلافها.
ويقول عبد الوهاب عن شادية: شادية صوت بتعريفة ولكنَّها تعطي فناً بمليون جنيه، فاستحقت شادية كل الألقاب التي أعطاها الجمهور لها، فهي القيثارة وعصفورة الكنارية، وغول فن، ودلوعة الشاشة.
ويقول عنها نجيب محفوظ: استطاعت أن تعطي سطوري لحماً ودماً وشكلاً مميزاً، وشادية قدَّمت للسينما 5 أعمال روائية للأديب العالمي نجيب محفوظ، وفاجأت الجمهور بأدوار جديدة باستطاعتها القيام بها وبجدارة أيضاً، ولذلك أجبرت نجيب محفوظ على كل تلك الأقوال التي قالها فيها، مثل قوله:
شعرت لأول مرة أن الشخصية التي رسمتها على الورق أصبحت حقيقية من لحم ودم تتحرَّك أمامي على الشاشة، وكانت حميدة في زقاق المدق صورة لقدرة فائقة للفنانة لا أتصوَّر غيرها قادراً على الإتيان بها.
ومَنْ يشاهد شادية يظن أنها في راحة بال شبه دائمة واستقرار نفسي كبير وضحكة لا تغيب، بل كانت على عكس ذلك فهي مَنْ كانت تفتش عن الاستقرار، ولم تجده مع أي من أزواجها، وهي مَنْ تمنت أن تسمع كلمة ماما من أبنائها هي، ولم تتحقق أيضاً.
وهي مَنْ قالت في لقاء لها نادر مع مصطفى محمود بعد حجابها إنها كانت من أسرة ملتزمة هادئة، وحياتها الفنية لم تجعلها تلجأ لذلك الالتزام والهدوء، وكان عليها أن تواكب الحفلات ووضع المكياج المستمر، ولكنَّها لم تكن باستطاعتها أن تهنأ بنوم قريرة العين، بل كانت تستيقظ ليلاً من الاختناق وعدم الراحة، حتى إن شادية كانت في فترتها الفنية الأخيرة في حالة من الاكتئاب المستمر، وشاركت في الليلة المحمدية بأغنيتها "خد بإيدي" التي بعدها قررت أن تقتصر على الغناء الديني، ولكنَّ الغريب أنه لم يعد بإمكانها أن تحفظ الكلمات، فعلقها منشغل بقراءة القرآن والورد والصلاة، فقامت مسرعة إلى الشيخ الشعراوي، الذي قال لها إنَّ الله يغفر الذنوب جميعها إلا أن يشرك به.
فقررت شادية ألا تتخلى عن تلك الراحة وأن تلتزمها بقية عمرها، وتبتعد عن تلك الأضواء المزيفة والحياة الباهتة؛ لأنها حقاً ذاقت حلاوة الإيمان، فأي مرارة ستفكر بالرجوع إليها مرة أخرى؟
اختارت طريق الخير والإحسان والصحبة الصالحة، فاتجهت إلى طريق مختلف تماماً عمَّا كانت هي فيه.
شادية قد منحها الله نعمة كبيرة وهي حب الناس، وبالفعل قد أخذ الله بيدها وأنار بصيرتها إلى الطريق المستقيم، الطريق الذي لا يندم مَنْ يسير فيه، ويُحسِن الخطى، وشادية هي مثال لِمَنْ سار وأحسن الخطى.
تفتقدها الدنيا، ولكنَّها في مكان هو خير وأبقى، وستدوم ذكراها في قلوبنا وعقولنا، رحمها اللهُ رحمةً واسعةً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.