كثيرون مَن يُنهكون عقولهم وألسنتهم إجلالاً وتبجيلاً للحياة بعد الموت، يرسمون حياة وردية تساير هواهم بما ينسيهم فيما قد مسهم ولا يزال يمسهم من البأس والبؤس في دارهم هذه، وإن منهم مَن -من حلكة ظلمة عماهم وجهلهم- يبيحون لأنفسهم الدم والعرض باسم معبودهم، وهم بذلك يتطلعون لأخراهم، جل هؤلاء باعتقادهم يدعون الصواب.
قليلون أولئك الذين يتفطنون لوهلة ليتساءلوا: هل هناك معنى للحياة قبل الموت؟ يبدو هذا للوهلة الأولى سؤالاً سخيفاً، لكن من سخرية القدر أن يتبدى لنا في كل مرة أن كل ما نحتقره يخفي حقائق عظيمة، تفضح مدى خفّة عقولنا، فعندما نرى أجساداً تتطاير شظايا وكتلاً، وأجساداً أخرى تدك دكاً أو تدهس دهساً تحت العجلات، أو ربما أخرى ضحايا ممارسات تعسفية هاتكة للأعراض وذابحة لمعاني الأخلاق والوعي، حينئذ وجب التساؤل عن قداسة هذه الحياة ومعناها، وعن نشاط عقول ناس هذا العصر فلا ضبط ولا انضباط، أو ربما وجب مراجعة مسار الإنسانية ومستقبلها الذي لا يوحي بأنباء سعيدة.
أن يُفني المرء حياته بيديه، فتلك جريمة في حق النفس، وأبشع من ذلك أن يربط بحبل مشنقته أعناق جمهور من الناس الأبرياء ما عرف أحدهم قط في حياته، فها هو ذا بحمقه يعدمهم أجمعين، فأياً ما كان يعتقد ويدَّعي فتلك جريمة نكراء في حق الإنسانية وفي حق الحياة، ومثله مَن يدّعي الحرية فيعيث في الأرض فساداً ويشيع الفاحشة والضلال أينما حلَّ وارتحل.
لطالما كان الجهل مرضاً عضالاً يهدد حياة الإنسان، وذلك لارتباطه بمفهوم "التصور": تصور المرء للحياة، تصوره للإنسان، تصوره للموت.. إن الأفعال القائمة على التصور المنبني على الجهل تحدث دائماً كوارث جسيمة، فإن كنت تؤمن حقاً أن الحياة ثمن يدفع لنيل حياة أفضل، فلربما قد لا تتوانى في دفعك لذلك الثمن، نفس الشيء ينطبق على تصورك للإنسان، فإن كنت تصوره قرباناً وهدايا فلربما قد تسوّل لك نفسك التضحية بالكثير منهم وهكذا.
إن ما يجعل الأمر خطيراً أن ما تصوره دائماً في فقاعة عقلك فأنت بالضرورة تؤمن به وتجزم بكونه الحق المنزّه من الشكوك، فهو بمنطقك صحيح ومنطقي جداً، ولا تكاد تمنح للآراء الأخرى فرصة طالما تلك الصورة التي ركبتها في عقلك كاملة ومتكاملة مع معارفك، فلا تتردد بعد ذلك في وضع تصوراتك محل التنفيذ، إن وهم الإدراك لطالما كانت له ردود فعل عنيفة وتعسفية لدى الجهال وأصحاب الكبرياء من الناس.
إن الوعي بالذات مستوى حرج من الإدراك، ودرجة عميقة من الفهم والاستيعاب؛ ذلك المعنى لا يستسيغه أصحاب الفكر الأناني والسطحي الذين يدّعون كونهم قطب العالم وعماده، وأنهم الحق وغيرهم الباطل، ومن ثم ينسبون إلى أنفسهم معاني التحرير والتنوير، ولعل حركات كداعش، والقاعدة مثالان جليان من آلاف الأمثلة الأخرى التي تُبدي فكراً متطرفاً متحجراً لا يقبل لا مساومة ولا نقاشاً.
ويتناسب أن نذكر أن التطرف نوعان: إقصائي وتوسعي، فالأول ينبذ التجديد وينكر مضامين الحداثة بألوانها وأشكالها، فهو يقصي المجدد والمستحدث ويرجع إلى الأصل والبداية (داعش مثالاً)، وغير الأول الثاني، الذي يشجع على الانفتاح الفاحش وتوسيع دائرة الاستيعاب الاجتماعي ويسعى إلى دمج أفكار وممارسات جديدة ضمن المجتمع (المثلية مثالاً).
الاختلاف بين النوعين أساسه وسط النشأة، فالإقصائي قد نبت عوده وفق أبعاد محدودة في تربة لا تشجع على الحرية، لعلها الخوف الأول الذي يجعل هذا الفكر يفضّل التراجع على الإقدام، والانعزال على الاجتماع والتنوع، فمعنى الحرية في هذا الوسط هو الزوغ والفحش وكل مظاهر الإفراط.
أما التوسعي فعكس الإقصائي، فقد نبت في وسط غني وسُقي بجرعات زائدة من الحرية واللامبالاة، كلاهما مذموم، فالأول مفرّط (بتشديد الراء) والثاني مفرط.
إن الفكر العربي المتطرف فكر إقصائي بدرجة كبيرة، إنه فكر مشحون سلبياً ضد الانفتاح، ويتسم بالكبت والنفاق والأنانية والتغطرس.
وكل ذلك نتاج تحوّل فجائي حدث للمجتمع العربي، فإبان انفجار فقاعة التكنولوجيا وانتشار مظاهر العولمة، اختفى المعنى المادي للحدود، ولكن لا يزال هذا المعنى للأسف راسخاً في عقول الكثيرين، وهو ما يجلب لهم الكثير من المشاكل في عصر الانفتاح هذا؛ حيث إن برمجتهم لا تخوّل لهم التكيف، فيقفون عاجزين ومكبلين أمام الوقائع والمستجدات، فيتيهون في عالم غير عالمهم الذي ألفوه، فيتساءلون: "ما الحل؟" يستذكرون بعدها الأمجاد القديمة وسالف أيام رخائهم، فيخلصون باستنتاج مفاده أنه "من الواجب إعادة الأمور إلى ما كانت عليه"، وهنا منبع التطرف، فكل لا يرى إلا رأيه الخاص!
إن ذلك الصراع بين ماضي الأمة العربية وحاضرها الجاري يجعلها أمة لا مستقبل لها، وتزيد الهوة عمقاً عندما تزداد حدة الإلحاح على "مفهوم القومية"، وعندما تبدأ أشكال جديدة من المجتمعات بالظهور، مجتمعات تتربى على قيم الحداثة والعولمة، وهو ما ينبئ بزوال مظاهر التشدد والإقصاء فيما يتعلق بالماضي؛ ليفتح الباب أمام فكر ثوري.
من غير المعقول أن ترسم خطوطاً حمراء غير مشروعة ولا مبررة لحياة الناس وهم أحرار أبناء أحرار، وقد صار ذلك جلياً للعيان بفضل درجة تلاقح الأفكار التي سمح بها انفتاح العالم، وقد ساهم ذلك بشكل كبير في محاربة الدوغمائية والخرافات في العديد من المجتمعات، وهو ما أفضى إلى نوع من التحرر لدى أفرادها، والذي لم تحسن الحكومات للأسف تهذيبه عبر المناهج التربوية والتعليمية ليلائم رهانات الحاضر، وهذا بدوره أدى إلى بروز ظواهر اجتماعية عميقة الأبعاد (التشرميل مثالاً)، وسيستمر انبثاق هذه الظواهر طالما لم تتم مراجعة أنظمة الضبط والتربية.
إن حياة الشعوب، خاصة العربية منها، مرهونة بمدى تسامحها وتفاعلها مع بعضها البعض ومع بقية العالم، وبمدى قدرتها على الإحاطة وتسيير نتاجات هذا التفاعل، بل مرهونة كذلك بمدى تقييمها واعتبارها للإنسان، وإحساسها بواجب صون الإنسانية بغض النظر عن المعتقدات والأيديولوجيات والسياسات.
إنني أعتبر شخصياً فاسداً كل مكون يسير ضد الإنسانية وضد قيم التسامح والتعاون، والتاريخ مليء بالدروس والعِبر، ودائماً ما يبين أن التطرف زائل والعصبية جهل والجهل مهلك، ولكن هيهات هيهات من أمة لا تقرأ!
ـــــــــــــــــــــــــ
* التشرميل: ظاهرة اجتماعية برزت في المجتمع المغربي خلال السنوات الأخيرة؛ حيث يقوم مراهقون حاملون لأسلحة بيضاء فيما يشبه السيوف بإرهاب الناس وتهديد الأمن الداخلي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.