تعلَّمنا في صغرنا أن لمس الكلب محرم، فهو مخلوق نجس تفر الملائكة منه، لكن هل من المعقول أن يخلق الله مخلوقاً نجساً بوفاء وجمال الكلب وبمحبته للإنسان؟! فحتى الخنزير الذي يعاديه المسلمون ليس نجساً، بل بكل بساطة حُرمت عليهم لحومه.
ولأن الأصل في الأعيان الطهارة إلا إذا ورد نص بنجاستها، فهذا يستلزم إذاً وجود نص صريح حول نجاسة الكلاب أو نجاسة لعابها على الأقل.
بداية عند البحث في القرآن الكريم عن جميع الآيات التي تتعلق بالكلاب من قريب أو من بعيد، نجد أنه لم يذكر الكلب إلا في آيات قليلة هي:
1- (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
2- (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ).
3- (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).
أي أن القرآن الكريم لم ينتقد الكلب أو يذمه، ولم يُشِر إلى أي نجاسة أو عداء بينه وبين الملائكة؛ بل على العكس نجد أن القرآن قد أحلَّ للمسلمين أكل ما تصطاده الكلاب وتحمله إليهم، ولا يخفى على أحد أن الكلب يحمل الصيد بفمه المليء باللعاب، فكيف من الممكن أن تحلل لحوم قد أصابتها نجاسة لعاب الكلب؟!
قمتُ بعد ذلك بالبحث في المواقع العلمية عن سر لعاب الكلب، وهل فعلاً يحوي مكونات غريبة ومميزة عن باقي الحيوانات تجعله نجساً؟ وقد وجدت عدة أبحاث وتقارير تتلخص في أن لعاب الكلب لا يختلف عن لعاب الإنسان والحيوانات الأخرى، إلا في مدى تركيز أنواع البكتيريا المختلفة.
ففي حين يزداد تركيز بعضها في لعاب الكلاب يزداد غيرها في لعاب الإنسان، بالإضافة أيضاً لأبحاث ودراسات أخرى تتحدث عن قدرة علاجية للعاب الكلاب عند لعقها لجروحها.
أما فيما يتعلق بالأحاديث النبوية والمرويات التاريخية، فإنها تزخر بالكثير من الأحاديث التي تتناول عدة مواضيع تتعلق بالكلاب، لكن الحديث الذي لربما يتعلق بنجاسة أو بلعاب الكلب بشكل عام، والذي بنى عليه أغلب الفقهاء أحكامهم وفتاواهم فهو:
ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (طَهورُ إناءِ أحدِكم، إذا ولَغ فيه الكلبُ، أن يغسِلَه سبعَ مرَّاتٍ أُولاهنَّ بالتُّرابِ).
لم يتحدث هذا الحديث عن أي نجاسة تتعلق بالكلب، لكن عند قراءته جيداً أفليس من المحتمل أن هذا التدبير هو من باب النظافة في زمن لم تتوافر فيه معقمات ولا مواد تنظيف، فلذلك اجتهد الرسول وأمر بالمبالغة في تنظيف الإناء بالماء والتراب؛ لئلا يكون الكلب مصاباً بداء الكلب (السعار).
أي أنه ليس هنالك سر متعلق بغسل الإناء سبع مرات، خاصة أن العدد اختلف من رواية لأخرى، وهذا يعني أن الأمر لم يكن للعدد "سبعة" بحد ذاته، وإنما فقط للتأكيد على النظافة. يقول ابن حزم: "إن غسل الإناء لا يعني بالضرورة نجاسة اللعاب، فإن كان كذلك فهل يعني غسل الميت نجاسته".
ولو افترضنا أن أمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- بغسل الإناء دليل على نجاسة الكلب أو لعابه، لكان المنيّ أيضاً نجساً لوجوب الغسل لمن قذف.
ثم إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يخبر أصحابه بهذا الإجراء إلا عندما جاءه رجل وسأله عن الإناء، لكن لم يسأله أحد آخر عن الحيوانات الأخرى التي لم تكن منتشرة في البادية العربية في القرن السابع الميلادي.
لذا من الواضح أن هذا التدبير ليس إلا مسألة حرص على النظافة، فلو مثلاً قمت بسؤال رجل من الأسكيمو عن وعاء ولغ فيه دُب قطبي لأجابك بضرورة إفراغ الوعاء وغسله بما هو متوافر في ذلك المكان من وسائل تنظيف.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الخلاف حول طهارة الكلب قديم، ولم يجمع العلماء على قرار واحد لعدم توافر نص صريح بذلك، حيث يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الكلب فقد تنازع العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّه طاهرٌ حتى ريقه، وهذا هو مذهب مالك.
والثاني: نجس حتى شعره، وهذا هو مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد.
والثالث: شعره طاهـر، وريقه نجسٌ، وهذا هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه".
نفهم من ذلك أن الإمام مالك قد ذهب إلى طهارة الكلب كله بما في ذلك فمه، وأن أمر غسل الإناء سبع مرات أنما قصد به الكلب المسعور كحالة مرضية وليس لجنس الكلاب بشكل عام.
ختاماً أود أن أوضح نقطة في غاية الأهمية، لم أتطرق في هذه التدوينة لحكم اقتناء الكلب؛ بل إنني قمت فقط بتوضيح نقطة نجاسة الكلب من عدمها، وهو موضوع لم أُثِره من العدم؛ بل اختلف عليه كبار العلماء قديماً، كما بينت وأردت فقط تبيان ذلك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.