البكاء يعمّ المكان، الأمعاء خاوية، أعين الأطفال متعلقة بالأم تترجاها لقمة تسكت بها صياح بطونها التي لم تستقبل شيئاً سوى الماء طوال اليوم، في جيئة وذهاب تطوف الأم بالغرفة، دمعت العين، وتوقف التفكير، وتعب الجسد من كثرة الطواف حتى اتخذ الجسد المنهك من زاوية الغرفة متكأً، عبرت نظراتها حول الغرفة نحو أطفالها الذين ناموا، أو بالأحرى فقدوا الوعي من كثرة الجوع والبكاء، القرار تم اتخاذه لا مزيد من التفكير.
تقف أمام المسجد ممسكة بما يثبت هويتها وجنسيتها، لعل ما في الجنسية من بريق يوقف الغمز واللمز الذي سمعته بشأن غيرها يوماً "إنها ليست من بني وطننا لا تعطِها شيئاً" وكأن الفقر ليس هو الفقر دون شرط جنس أو هوية.
يخرج المصلّون من المسجد، يأتي النداء والسؤال بأصوات مختلفة؛ أطفال، نساء، رجال، الكل يسأل.
تحاول الأم أن تنصت للزملاء الجدد ماذا يقولون وكيف يقولونه؟ تستغرب كيف تمدّ هذه الأيادي وتنطلق تلك الأصوات وكأنها خارجة عن جهاز تسجيل، تستصعب المسألة والنداء لكنها تستحضر صورة من الليلة الماضية لأجساد أطفالها الجائعة، تستجمع رباطة جأشها، تشعر بصعوبة في الكلام، حتى إنها أخذت تدفعه دفعاً كمن يحاول دفع باب قصر كبير، تتصارع مع الباب ثم تنطق بتمتمة: "صدقة لوجه الله"، تنزل دمعه لتعلن أنها قد داست على كرامتها من أجل لقمة عيش ليوم آخر، تمتد اليد الأولى في مرة التسول الأولى وتنزل الدمعة الأولى، ومع كل يد تمتد تزداد الدموع ويرتفع الصوت مع سيلان الأفكار، تبرر الفعل "لديّ يتامى، قُتل في الحرب لا أهل ولا معيل لي"، يظن المتصدق أنّها تبرر لهم سؤالها لكنّها إنما كانت تحدّث نفسها، تقنعها بأنها ليست مسؤولة عما وصلت إليه من فقر وفاقة ووحدة وظلم.
تعود للمنزل بعد أن اشترت ما يسد رمق أطفالها، تحاول استعادة كبريائها ورباطة جأشها أمامهم، فاليوم في أمن من جوع ولا أمان للغد، يتكرر الأمر مع استمرار الظلم، وفي كل مرّة يُصبح الأمر أسهل حتى اعتادت تجاهل أعين الناس، والباب أصبح مفتوحاً على مصراعَيه، لا كرامة لدفعها، فالجسد أصبح غير الجسد بعد أن غادرته الروح وما بي النفس من عزة وكرامة، تنظر إليهم وهم يتسولون فلا تشعر بهم، والحقيقة أنهم كما فقدوا أرواحهم مع الوقت قد فقدت روحك أنت أيضاً بطريقة ما، حتّى تعودت على وجودهم كما تعودت على معالم الطريق التي تسلكها كلّ يوم، فالألم الذي تشعر به لحالهم في المرة الأولى لم يعد كما هو مع مرور الوقت.
ما بعد المرة الأولى يصبح كل شيء مختلفاً، يصبح عادة تفقد قيمتها. نحن نعطي المرة الأولى لكل شيء أكبر اهتمام، الغلطة الأولى والنظرة الأولى، والكلمة الأولى، والاعتراف الأول، لكننا لا نفكر فيما بعد المرة الأولى بالشكل المناسب.
لا يتعلق الأمر هنا بقصة التسوّل فقط، فالمشاهد والقصص كثيرة ومتشابهة بطريقة ما، فقط يمكنك أن تعيشها إذا ما تخيلت نفسك مكان الآخرين، سواء كان المكان جيداً أو سيئاً، مكان أولئك الذين تتساءل: "كيف أصبحوا هكذا؟" أو "كيف وصلوا إلى هذا؟"، يمكنك أن تذهب إلى السجون وستسمع الكثير عن المرة الأولى وعما بعدها، عن ضمير انتفض في مرة السرقة أو التعاطي الأولى، لكن نبض الضمير توقف حتى ما كادت صدمة كهربائية تعيده إلى الحياة بعد المرة الأولى.
ما بعد صدمتك الأولى أيضاً من خيانة صديق، أو أذى جار، أو عقوق ابن، أو جرم مجتمع ستصبح أكثر تعوّداً وشجاعة وخبرة، حتّى إنك ستتجاوز الأمور أسرع مما تتخيل، وربما ستصدم من هذه السرعة.
ما بعد المرة الأولى لا تعود الأمور كما كانت.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.