لهذا هاجرنا

يتكرر هذا المشهد يومياً، فضلاً عن الاعتقالات التي تحدث بشكل يومي تقريباً، ولا تدري عندما تخرج من بيتك هل تعتقل أم لا، إلى أن جاءت لحظة تحرير المدينة، وبدأت تلك المعركة في جانب الموصل الأيسر، ثم انتقلت إلى جانب المدينة الأيمن، ثم إلى الموصل القديمة التي لم تعُد فيها حياة، وإلى الآن هناك أرواح تحت أنقاضها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/16 الساعة 02:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/16 الساعة 02:24 بتوقيت غرينتش

تتعالى الكثير من الأصوات في هذه الأيام من شعارات وهتافات بحجة أنها وطنية، والكل يعلم ما هي الدوافع والغايات لتلك الشعارات، ربما بعض الناس يجهلها أو يتغاضى عنها، أو يتماشى معها لمكاسب معينة.

مدينتي الموصل أبسط مثال على ذلك، فمنذ احتلال العراق 2003 إلى قبل يونيو/حزيران 2014 لم تكن الموصل تعيش بأمان وسلام ورغدٍ، بل كانت مهمَّشة من كل الأطراف، حكومية كانت أو دولية، مما دفع المجاميع المسلحة إلى أن تنمو فيها وتأتي إليها.

الكل يعلم أن سقوط مدينة الموصل في يونيو/حزيران 2014 بيد تنظيم داعش الإرهابي لم يكن بمعركة، بل كان أشبه ما يكون بتسليم وتسلّم، أذكر ليلة السقوط المشؤومة ونهارها عندما رأيت بعض الجنود المساكين وقد تركهم ضباطهم وهربوا يطرقون الأبواب؛ ليأخذوا ملابس مدنية من الأهالي ليتركوا سلاحهم ويرحلوا.

لا أعتب على الجندي البسيط، فهذا لا حول له ولا قوة، بل القادة الذين تركوهم، والكل يعلم أن هروب القائد في أية معركة معناه خسارة ذلك الجيش، على الرغم من أنه لم تكن هناك معركة، فوجود أكثر من 55 ألف جندي في المدينة لم يصمدوا لأيام قلائل، أذكر إلى الآن الملابس العسكرية والرتب مرمية على الأرض مع السلاح والآليات العسكرية؛ ليأتي عناصر التنظيم ويأخذونها بسهولة، سيطر داعش بكل سهولة بعدها على المدينة، حيث هجرها بعض سكانها وبقي الآخر، لم يأتِ هذا التنظيم المتوحش ليسعد أهل المدينة، بل ليقتل أهلها، والكل يعرف ذلك، لكن ما روّجه الإعلام مخالف للحقائق.

أذكر عندما كنت أخرج من بيتي إلى عملي لأرى في الشارع تجمهراً للناس وإذا بمجموعة تُعدم من شباب المدينة بأبشع الطرق حرقاً، غرقاً، تفجيراً، نحراً، أو رمياً بالرصاص.

يتكرر هذا المشهد يومياً، فضلاً عن الاعتقالات التي تحدث بشكل يومي تقريباً، ولا تدري عندما تخرج من بيتك هل تعتقل أم لا، إلى أن جاءت لحظة تحرير المدينة، وبدأت تلك المعركة في جانب الموصل الأيسر، ثم انتقلت إلى جانب المدينة الأيمن، ثم إلى الموصل القديمة التي لم تعُد فيها حياة، وإلى الآن هناك أرواح تحت أنقاضها.

فبعد أن سطَّر جنودنا الأبطال أروع الملاحم والتضحيات؛ ليغسلوا عار أولئك القادة الخونة الذين هربوا سابقاً، لكن الموصل بهذه المعركة وطيلة الاحتلال فقدت تاريخها، وآثارها، وبنيتها التحية، وفقدت خيرة شبابها ممن قتل أو هاجر؛ لتأتي الأصوات اليوم وتقول: أنتم تركتم المدينة وهربتم، لم نترك مدينتنا بل بقينا فيها عندما هربتم حتى وصلنا إلى الموت… لهذا هاجرنا.

لم يكن سفرنا للسياحة أو التجارة، أذكر عندما خرجت سراً قبل عام ونصف حتى أهل بيتي لم أبلغهم بسفري إلا قبل السفر ساعات قليلة؛ لأن خروجي من المدينة كان سراً، والكثير من أهالي الموصل خرجوا بالطريقة ذاتها، لم تكن وجهتي واضحة في بداية الأمر؛ حتى إنني لم أعلم هل سأصل أم لا، في مسيرة طويلة استمرت 13 يوماً امتدت من الموصل ثم سوريا، دير الزور فالرقة وحلب وإدلب، ثم تركيا هتاي غازي، عنتاب، أنقرة، ثم تحط راحلتي في إسطنبول التي تعتبر ولادة جديدة بالنسبة لي.

لهذا هاجرنا..
فكما هو معلوم أن إسطنبول هي ملتقى العالم الآسيوي والأوروبي ومزيج من هذه الحضارة وتلك بتنوع ثقافاتها وهندستها وتاريخها ربما إن صحَّ التعبير قد فاقت مدننا بعقود من السنوات ليس في البنيان فحسب، بل في العقول أيضاً.

أتعجب مما أرى في مواقع التواصل الاجتماعي من شباب عراقيين يمجدون ويمدحون باسم العراق العظيم، أيّ عظمةٍ هذه؟
عظمة بالفساد؟! عظمة بالسرقات؟! عظمة بالدماء والقتل والتهجير والطائفية؟
أيُ سذاجة هذه من أولئك؟!

أذكر قبل أشهر نشرت منشوراً على صفحتي في الفيسبوك عن الفرق بين ركاب طائرة تركية وطائرة عراقية، لم أنقل إلا ما رأيت من الجانبين بأن الأتراك أثناء الطيران ينشغلون بقراءة كتاب أو يلتزمون الصمت، وأما العراقيون فأكرثهم يكثرون من الضوضاء والضجيج، وإذا بأكثر المعلقين يمتدحون الركاب العراقيين مع العلم هم يعلمون حق اليقين أن كلامهم خاطئ، فهل هذا انفصام بالشخصية؟! أم سذاجة وغباء؟

بطبيعة الحال لا أريد أن أتكلم عن بلدي وأهل بلدي المظلومين بسوء، فأنا منهم، لكن هي مجرد مفارقة وتمنّ بأن نصل إلى ما وصلت إليه تلك البلدان.

أكثر ما يقولونه إننا كنا سابقاً عاصمة للعلم والحضارة والفن.. نعم كنا ذلك يوماً ما لكن الآن ماذا؟
هل بقي ذلك العلم أو الفن أو الحضارة؟ بالطبع لا.. الأدهى من ذلك أنهم لو يعملون كما يعمل بقية البلدان لبلدهم لقلنا من حقهم أن يمجدوا أنفسهم وأجدادهم، لكن الواقع غير ذلك.

فإذا كان تفكير شبابنا بهذه السذاجة كيف تريد أن يبنى بلدك ويتطور؟

لهذا هاجرنا
قد يقول قائل: "ليش ما ترجع لعد أنت وتساعد على بناء وطنك؟".
إجابتي سريعة: لا تستطيع أن تركب السفينة وتبحر في بحرٍ ليس فيه ماء.. حاولنا سابقاً بأن نكون نحن الماء فكان ثمنها حياتنا، لكن الله سلّم.

لهذا هاجرنا…
لا يوجد هنا تيجان رأس وحماة أعراض (كما يدّعي البعض).

لهذا هاجرنا
لا يوجد هنا مَن يشعرك بالغربة كغربتك في بلدك.

لهذا هاجرنا
لا يوجد في الغربة جيش ومسؤولون يسلمون ملايين من الناس بيد مجرمين قتلة.

لهذا هاجرنا
لا يوجد شعب يحملك فضلاً بأنه حررك بعدما تركك وهرب وبالمقابل يقول "كلنا العراق".

لهذا هاجرنا
لا يوجد هنا قطيع بشري يشتري المسؤول الفاسد ذممهم ليروجوا له.

لهذا هاجرنا
لا يوجد هنا مَن يحكم عليك من مظهرك أو طريقة تفكيرك.

لهذا هاجرنا

أملنا بالعائلات التي هاجرت وعادت أو ستعود بأن تطبق ما استفادته وتعلمته في الغربة، ونقلتها إلى مجتمعها على أمل الوصول إلى التغيير المطلوب.

في آخر مقالتي هذه لا تتصور أيها القارئ الكريم أنني أتنصّل من أصلي وبلدي، وأنني أُظهر صورة سلبية عن مجتمعي، ففي كل مجتمعٍ هناك سلبيات وإيجابيات، لكنني أتألم لواقعه وأتألم أكثر عندما أرى تفكير بعض شبابه بهذه الطريقة، لكننا سنعود يوماً لنُسهم في ولادة جديدة مِن رَحِم الممات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد