منذُ عدّةِ أعوام كتبَ أحدُ الأُدباءِ المُفضّلينَ عندي قصَّةً حدثت له في قطار، القصّةُ باختصار أنَّ ذلك الأديب استقلَّ أحدَ القطاراتِ يوماً ما مسافراً إلى مدينةٍ تبعدُ عن مدينته، وعند دخوله إحدى عرباتِ القطار ليتخيَّرَ مكانَ جلوسه، وقعت عينُه على مقعدٍ بجوارِ نافذةٍ فاستقرَّ إليه؛ ليتسلّى بمشاهدةِ الطّريق، وقبلَ انطلاقِ القطار جلس إلى جواره ذلك الرّجل الأشقر، ورحّبَ بالأديب بلسانٍ عربيٍّ فصيح تخالطهُ لكنتهُ الأعجميّة في بعض الحروف مخالطةً لطيفةً خفيفةً -كما وُصفت- فردَّ عليه الأديب التحيَّة وصافحهُ مُختلجاً في نفسه سروراً عظيماً بسلامة لغةِ ذلك الرّجُل.
حين بدأ كلاهما تجاذُب أطراف الحديث والتَّعارف الذي دارَ بينهما بلُغةٍ فصيحة، كانَ الرَّجل يحاول مداراةِ اسمه في البداية عن الأديب؛ ليتكشَّف له لاحقاً أنَّ هذا الرَّجل فرنسيٌّ متقنٌ للّغةِ العربية؛ حيثُ تعلّمها من أحدِ رفاقه الجزائريين عندما كان شاباً.
كان الحديثُ بينهما يروحُ ويجيء في مواضيع شتى، تكلَّما عن جمال اللغةِ العربية وعن اختلاف ثقافاتهما ودينهما الذي أخذَ الجزء الأكبر من الحديث، كلاهما كانَ سعيداً ومستمتعاً بالحديثِ الذي طال بينهما؛ حيثُ كان يعبّر الفرنسي عن بعض كلام الأديب قائلاً: أتدري أنني قد سمعت هذا الكلام وأكثر منه عشرات المرات، ولكنَّ صوتك وطريقة كلامك معي وانفعالك الصادق جعل لكلامك أثراً خاصاً في نفسي.
كان جدارُ الصّمتِ أحياناً يُقامُ بينهما، ومسافةُ الطَّريق ليست قليلةً حتى يأتي مِعول الكلام من أحدهما فينقضه، فنشأ بينهما في تلك الساعات القليلةِ صداقةٌ جليلة وقَبولٌ في النّفس من كلا الطّرفين، حتىَّ إنّهما لم يشعُرا بمرور وقت الرّحلة.
الشَّاهد من القصّة هنا أنَّه لمَّا دنا الفراق بينهما وطلب الأديب من صاحبه عنواناً للمراسلة أو طريقةً للاتصال بينهما أصرَّ الفرنسي على عدم تبادل العُنوان والهاتف قائلاً: التقينا صُدفةً غرباء، وقد نلتقي مرَّةً أُخرى صدفة.
انتهت هُنا القصّة، وكان ذلك المشهد الأخير أشبه ما يكون بلوحةٍ فنّية صامتة، لا يمكنني وصفُ جمالها ولا اكتشاف علّة ذلك الجمال.
ظلَّ ذلك المشهد يتردَّدُ إلى ذهني فترةً زمنيّةً طويلة مصحوباً بسؤالٍ لا يؤول إلى جواب؛ لمَ قال الفرنسي جملته الأخيرة؟ ولم اختار هذه الطريقة للوداع؟ هل كان يتملَّصُ من صداقةِ الأديب؟ لا أظنُّ ذلك، فقد كانَ الحديثُ يوحي بالعكس.
بعد ثلاث سنواتٍ من قراءتي لتلك القصّة؛ حيث كانت دائماً ما تزورُ خيالي، وتتردَّدُ في نفسي كالصَّدى في أعالي الجبال مُدوّيةً بتلك الأسئلة، أظُنّني فطنت إلى مقصدِ الفرنسي.
البدايات هيَ الأجمل كما يقولون، كان الفرنسي يريد تحنيط تلك اللحظات كما تفعل الفراعنة بأجساد كُبرائها للحفاظ عليها كذكرى لا تتغيّر بفعلِ السنين، عندما كانت البدايات هيَ الأجمل كان عليه ألَّا يُلوّث جمالها بما يشوبها من مُعتركات ما قبل النّهاية، كان يؤمنُ أنَّ دِفء الشمس لا يُطلبُ وقتَ الرَّغبة وإنَّما يُنتظَرُ ليأتيَ بأوانه.
أراد الفرنسيُّ -حسب ما أظن- أن يجعل البداية بجمالها هيَ النّهاية أيضاً؛ ليظلَّ المشهدُ مُحتفظاً برونقه وجماله، ولكيْلا يُفقد ذلك الشّعور تجاه صاحبه الأديب يوماً ما.
إلى تلك النّهاية والبداية التي صنعت مشهداً محفوظاً لا يُمسُّ ببضعِ كلماتٍ لا تُنسى: "التقينا صُدفةً غرباء وقد نلتقي مرّةً أخرى صدفة" عذراً وشكراً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.