قد تتكوّن لديك فكرة توارثتها من مجتمعك ومحيطك الذي تعيش فيه، أو من مدرستك التي درست فيها، ودون أن تتحقق منها، تعتقد أنها صحيحة لا يشوبها أي نقص، فتصبح لديك بعيدةً عن الشك، خاصة إن اعتنقها الكثير من الأتباع، وتعتقد أن الكثرة دلالة على الصحّة، فتصبح تلك الفكرة مرجعاً لك في الحكم على الأمور، وتضطر لجعل جلّ معلوماتك الجديدة تمر عبر مصفاة تلك الفكرة التي لا شكّ فيها، بل ستجبر نفسك على تأويل كل فكرة جديدة لجعلها متوافقة مع فكرتك الموروثة، وهذه هي مشكلة المذاهب الإسلامية والمسلمين عموماً، وجل المجتمعات الشرقية.
وليس فقط نحن مَن عانينا من هذه المشكلة، فالتاريخ يخبرنا أن الفيلسوف "أرسطو" توارث من مجتمعه فكرة خاطئة، هي أن عدد أسنان الرجل أكثر من عدد أسنان المرأة، وعلى الرغم من أنه كان متزوجاً بزوجتين لم يكلّف نفسه عناء التحقق، وعندما اكتشف "غاليلو" بتلسكوبه أن هناك أقماراً تدور حول كوكب المشتري، رفض التقليديون النظر إلى تلسكوبه؛ لأنهم كانوا مقتنعين بعدم وجود هذه الأقمار، وأن "غاليلي" اخترع هذا التلسكوب من أجل خداعهم لا غير.
في الحقيقة اكتشاف "غاليلو" لحقيقة دوران الأرض حول الشمس، كان ثورة على الفكرة السابقة القائلة بثبات الأرض وكونها مركز الكون، فرغم حجج "غاليلي" القويّة، تم تكفيره وإيداعه في السجن بتهمة الهرطقة، والخروج على تعاليم الكتاب المقدّس بهذه الفكرة الجديدة، ولا يجب أن ننسى ما حدث للفلكي "كوبرنيكوس" الذي نسف فكرة أن الأرض مركز الكون، لكنه خاف من نشر بحثه خشية ردّة فعل الكهنة، وها هو نفس الأمر يحدث في العالم الإسلامي، فكل من اجتهد وحاول أن يجدد أفكار القدماء بحلّتها البالية التي أصبحت تجذبنا إلى الوراء، ويبين نقصها بل وعدم صلاحيتها، يتّهم في دينه ويصبح كافراً حتى لو دعم رأيه بأدلة عقلية ونقلية، وكأن الفكر البشري عند المسلمين حُكم عليه بالأزلية إلى أبد الآبدين، وبالتراتبية أي يعني أنه حتى لو بيّنت خطأ رأي أحد الأئمة الأربعة أو أئمة الشيعة والصوفية وفساد إحدى أفكارهم لن يهتم أحد لرأيك في أحسن الأحوال؛ لأنك لم تعِش في عصرهم ولم تكُن منهم، وبالتالي لا أهمية لرأيك وقوّة حجّتك أمام هؤلاء الأشخاص.
ما هو السبب في كل هذا؟ إنه قوّة تأثير العادة والتقاليد، فالإنسان يركن إلى من يوافقه في الرأي ومن لا يشكّ في أفكاره، ويزداد ارتياحاً عندما يرى الكثير من الناس على نفس الرأي، فتصبح أفكاره صحيحة عنده صحّة مطلقة، فيعتقد أن هذا العالم خُلق من أجل أفكاره، وأن الأرض تدور حوله، وعندها يظهر العقل البدائي وتشيع معه عقلية الآبائية والوصاية على الآخر ثم التقليد؛ لذلك التقليد جعل سلطان العواطف والأهواء أكبر من سلطان العقل عند المسلم، ولهذا أصبحت دعوات إيجاد منهج فكري جديد للفقه الإسلامي ونداءات نقد الموروث الديني في عالمنا الإسلامي كالذي ينادي الأموات ليقوموا من قبورهم.
إن من محاسن عصرنا الذي نعيش فيه، هو أن الحقيقة المطلقة قد ولّى زمنها وفقدت قيمتها، ولم يعُد هناك مكان لاعتبار أن ما قاله فلان ابن علان هو الحق وما دونه الباطل، وأخذ سلطان نسبية الأفكار يزداد تدريجياً بتقدّم العلوم وتطوّر أساليب البحث العلمي، وعالمنا الفسيح يبرهن على سنّة الله الكونية في وجوب الاختلاف، ولولا هذا الاختلاف لماّ تقدّمت البشرية أصلاً.
لكن خرج علينا أقوام لا يهتدون إلا بآراء أجدادهم، وجعلوا هذه الآراء لغاية في أنفسهم ديناً بحدّ ذاته، مثلما جعلوا ذلك المعيار الكهنوتي المسمّى "الإجماع" وسيلة لفرض آرائهم وادّعاء العصمة فيها متناسين أن البشرية لا يمكنها أن تتفق على رأي واحد وإلا لكانت مسلوبة الإرادة ومجرد مجموعة من القطيع، فتجدهم يشترطون التسليم الكامل لآراء أجدادهم، فلا اجتهاد مع النص، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وصحيح البخاري أصح كتاب بعد الله، وقال السلف كذا وكذا، وأن العقل يؤدي إلى الهوى، وأن النقل يجب أن يكون حاكماً عليه، وغيرها من التسليمات التي جعلت الإنسان المسلم كائناً مبرمجاً، والأخطر من هذا أنها أصبحت بمثابة مقدّمات كبرى – أي بديهيات لا تقبل النقاش – عند كل قضيّة فقهية.
ومشكلة هؤلاء الذين يجعلون آراء أجدادهم هي الحقيقة المطلقة تجدهم إذا أحبوا رجلاً من رجال التاريخ، رجعوا إلى كل عمل قام به أو فكرة نشرها فيأخذون بجمع الدلائل العقلية والنقلية للبرهنة على صحّة فكرته وعمله لكل زمان ومكان، ويهملون مساوئ أفكاره حتى وإن أدت إلى بحور من الدماء، أما الذي يكرهونه من رجال التاريخ فكل أعماله وأقواله باطلة حتى تلك التي وجدوا مثلها عند رجلهم المحبوب أو "آلهتهم البشرية المقدّسة"، هذه هي آفة أمتنا، فهي لا تدرس التاريخ من أجل استخلاص العِبر والدروس والإنصاف في الأحكام، وإنما التاريخ عندها هو وسيلة للبحث عن مناقب وبطولات لفلان ابن علان حتى تجرّد منه صفة البشرية ويصبح هذا العالم مخلوقاً لأجله فقط، وخصمه هو حليف الشيطان الذي يجب التحذير منه.
والمصيبة الكبرى التي زادت الطين بلّة، هي سيطرة المنطق القديم على العقل المسلم، وبالتحديد المنطق الأرسطوطاليسي، فقد سبق أن قلنا إن لم نستطِع التخلّي عن أساليب التفكير القديمة في معالجة القضايا، فسنلحق الضرر بأنفسنا وبغيرنا، ثم إن أرباب المنطق القديم من مؤسسي المذاهب الإسلامية والفرق الكلامية لا يختلفون أبداً فيما بينهم؛ لأنهم يستعملون نفس الأسلوب للدفاع عن آرائهم.
فالشيعة مثلاً يستدّلون على جواز عادة التطبير بأنها مواساة للإمام الشهيد، وللبرهنة على ذلك ينطلقون من مقدّمة أن مواساة الشهداء حسنة، والتطبير هو مواساة للإمام الشهيد، إذن التطبير حسن، هذا هو المنطق القديم الذي يعتمد على البديهيات فإن شككت في صحّة البديهية تصبح كافراً وزنديقاً عنده، وصاحب هذا المنطق عموماً سواء كان شيعياً أم سُنياً أو غيرهما يصعب عليك أن تتفاهم معه، وأن تعترض عليه، والطريف في الأمر هو أنه يكفي أن تهدم البديهية فقط لتسقط الفكرة بأكملها، ومع ذلك يأتي إليك المتحذلق ليقول لك مَن أنت لتعارض الفقيه الفلاني؟ وكأن معارضة الفقهاء أصبحت تتطلب دكاترة في الفيزياء والرياضيات، فهل بقي مكان لهذا المنطق ولهذه العقلية في عصرنا الحالي، عصر الكوانتم والفضاء والسرعة؟
وما يزيد طغيان الحقيقة المطلقة ليس فقط أساليب التفكير البدائية، بل حتى الأساليب اللاعلمية، أيضاً، فمن أهم الخدع التي تعرض لها المسلم، هي خدعة "فهم السلف للقرآن" و"قال السلف".. إلخ، فتصبح التراتبية بمثابة الضربة القاضية على الأفكار، فإن كان الفلاني قريباً من الرسول عليه الصلاة والسلام، فطريقة تفسيره للآية وطريقة فهمه للدين تصبح فكرة مطلقة والويل لمن تسوّل له نفسه انتقاد ذلك الشخص ومخالفة فكرته، ولماذا؟ لأنه صاحب الرسول!
وشخصياً أنا لا ألوم فقهاء المسلمين الأوائل على اعتماد هذا المعيار في فهم الدين ومحاولة تبيان مقاصد الشريعة، ففي بادئ الأمر يظهر هذا المعيار الظاهري معقولاً ومقبولاً، لكن للأسف علماء الفقه الإسلامي الأوائل كانت بيئتهم العلمية فقيرة إبستمولوجياً، أي أن فقههم الذي أسسوه لم يعتمد على العلوم الأخرى في فهم الدين مثل علم النفس، والاجتماع إضافة إلى صعوبة الحصول على المعلومة والتحقق منها، بل الثقافة السائدة آنذاك هي الثقافة الشفهية والعنعنة فقط، ولهذا لم يكن أمامهم سوى استعمال مثل هذه المعايير البدائية بمقاييس عصرنا في آرائهم الفقهية، ومع ذلك اعترفوا بقصور أعمالهم واجتهاداتهم، كرفض الإمام مالك موقف الخليفة أبي جعفر المنصور بإجبار الناس على آرائه الفقهية، وقال له: "لا أحمل الناس على رأيي"، والشافعي الذي قال يوماً: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، وبالتالي يمكن أن نقول: إنه لو عاش هؤلاء العلماء في عصرنا وتوافرت لديهم أدوات البحث العلمي الحالية المتطوّرة لما خرج علينا مجموعة من المتفيقهين ابتداءً من عصر المتوكل وصولاً إلى العصر المملوكي؛ ليفرضوا علينا آراء رفض حتى أصحابها الأصليون أن يجبروا الناس عليها، وأن يهددونا بالجحيم، وتخييرنا بين الاستتابة أو القتل.
إن المنطق الحديث ينكر تماماً وجود الحقيقة المطلقة نظرياً وعملياً، فهو يرى في كل فكرة جانباً من الصواب وجانباً من الخطأ في حدود الإطار الخاص بها، فما يكون صحيحاً عندي، قد يكون غير صحيح عندك؛ لأن كل شخص يفهم الفكرة حسب تكوينه النفسي والاجتماعي والثقافي ومصلحته الشخصية؛ لذلك المطلوب منا هو وضع كل فكرة مهما كانت تحت مجهر الفحص، ثم ندرس أثرها على المجتمعات ومدى نفعها من ضرّها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.