أكثر ما تلقى من القلوب التي كسرها ومضى غير عابئ، على مدى سنوات "كل البنات يغازلنه بعيونهن" فيتمنّع في رغبة! كأنه أبو الخطاب "عمر بن أبي ربيعة" في نواحي الميل يعدو بالأغر، كنا إذا رأينا إحداهن تتوله، وكثيرٌ ما هُنَّ، وقد تيمها تهللنا لا يلبث يمط شفتيه ويذمهما بلازمته الشهيرة (ما في شرارة) حتى آيسنا أن يخفق ذلك القلب وتنقدح به تلك الشرارة العزيزة.. إنما كان إذا هجد من مطارحات منتديات السياسة ومنابر الفكر يتسلى بشيء من أشعار "قومه الشايقية" أشد ولعه بأشعار إبراهيم بن عوف وعابرات الحِبيّب، نركن إلى ظلال "الفيحاء" فينشد من ترانيم الرواويس:
يا مجودة حِليل أمبكول مَرَّة نَكْسَح ومرات نَجُـر
في كريمة نَطِبْ العَصُر ونَشرَب الجَبَنة مع التَمُر
في نهار غائظ من نهارات الخرطوم الصائفة سألني فرح ماذا أراب توبة الخفاجي من ليلى؟ فلم يفتح الله علي بشيء مما قال، وشيكاً ستنجيني أبياته ثمّة أنشده.
ذلك إنسان عجيب حقاً، سرعان ما تتوارى تلك العوالم الرقيقة والعذوبة الرقراقة في نفسه متى أنتقل إلى المناظرات حول (محمد أركون) فجأة تتزلزل الأرجاء وتثور الرعود، يتمترس الفاضل فرح داخل ذلك الميدان في موقف (الثابت) الذي يعرّفه "أدونيس" بأنه الفكر الذي يقوم على النص، ويتخذ من ثباته حجة لثباته هو، فهماً وتقويماً، ويفرض نفسه بوصفه المعنى الوحيد الصحيح لهذا النص وبوصفه استناداً إلى ذلك سلطة معرفية.. ومن ثم فهو حربٌ على الفكر الذي ينهض، هو أيضاً على النص، لكن بتأويل يجعل النص قابلاً للتكيف مع الواقع وتجدده.
لعلها أثارةٌ نمت إليه من معلمٍ، ذي تجربة طرية، لكنها مشوبة متأثرة بما كابده شباب الإسلاميين، خاصة الذين استخفتهم طبقة القيادات في تنظيمهم المتغلب -يومئذِ- على السلطة (1989- 1999) فأهطعوا إليها مطيعين فزجت بهم باسم الدين والجهاد، افتراءً، في حمأة القتالات الأهلية جنوبي السودان، أهلكت زهرتهم وقد خلا الجو لأشياخهم في الخرطوم فدقوا بينهم عطر منشم، وقاموا يصطرعون ويقتتلون على لعاعة من الدنيا، تلك تجربة مريرة تورث التعصب والفكر اليابس ما كان لها أن تصل إلى جيل خالف ناهض لم يكن من جُنَاتِها.
تدارك الفاضل ورهطه خطأهم الأول، حينما رهنوا أنفسهم لرابطة تنظيمية اثّاقلت بهم وأقعدتهم إلى الأرض طويلاً، قبل أن ينعتقوا من ربقتها، صحيح أنهم فعلوا ذلك مكرهين لا أبطال، لكنهم وجدوا أنفسهم في فضاء أوسع من ضيق ساحتهم الأولى، قلت لصاحبي وأنا أحاوره: نعم القوم أنتم لولا أنكم تضيقون واسعاً! إنّكم لن تسعوا الناس بتوجهاتكم السياسية ولا رابطتكم التنظيمية، ولكن يسعهم منكم طلاقة الفكر وبسط الأيادي ومد الجسور نحو الآخر.
تحت ظلال الفيحاء في شارع علي عبد اللطيف، قبل أن يرميني بثالثة الأثافي، قلت له لقد تذكرت ما أراب توبة الخفاجي من صاحبته، فسكنَ روعه وأنشدته من الطويل:
أمخترمي ريب المنون ولم أزر
جواريَ من همدان بيضاً نحورها
تنوء بأعجازٍ ثقالٍ وأسوقٍ
جدال وأقدام لطاف شعورها
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداة سفورها
وقد رابني منها صدود رأيته
وإعراضها عن حاجتي وقصورها
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.