هل سمعت آخر نكتة؟
سؤال يستفز كل خلاياك الحسية ويجعلك تتشوّق لسماعها مستنفراً كل قدراتك للإحساس بلذة خفية عارمة وأنت تتهيأ لمفاجأة ظريفة.. كيف يجب أن تكون.. وما هو دورها؟ وهل للنكتة تأثير اجتماعي؟ وما هي الظروف التي تتولد فيها النكتة؟ وهل لها علاقة بالأوضاع الاقتصادية والسياسية؟ وهل يمكن للنكتة أن تعالج حالة ما، أو أن يكون لها دور في حل معضلة ما، أم أن دور النكتة ينحصر فقط في إضحاك الناس؟
النكتة لغة هي النقطة السوداء في بياض أو بياض في سواد، وهي تركيبة لغوية معقدة تنمّ عن القدرة العقلية على جمع كلمات أو أفكار، متناقضة أصلاً، في قولٍ يثير فينا الدهشة فالتعجب فالضحك، وقد نجدها تحت عدة مسميات كالطرفة، فقد ورد في لسان العرب: "شيء طريف: طيب غريب.. واستطرف الشيء، أي: عدّه طريفاً، والنادرة هي: الخبر القصير أو الأقصوصة التي لا تطول إلى درجة الحكاية الهزلية ولا تقصر إلى النكتة والتي تضحك".
من حيث الشكل والمحتوى، فالنكتة أدب وفن وإبداع، بضع كلمات تأتي في صيغة ساخرة، والسخرية منها وفيها تحمل معاني متعددة ومختلفة، تلاعب بالألفاظ يصنع معنى مزدوجاً، فهناك المعنى الظاهري الذي لا يثير الضحك إذا استعمل بشكل مألوف، والمعنى الخفي الذي لا يثير الضحك إلا لكونه مرتبطاً بالمعنى الأول، تتطلب نشاطاً ذهنياً خاصاً، فلا يمكن أن تنشأ بين السذج، وإنما تنشأ بين الطبقات التي تعيش الحياة في أعمق أعماقها، فهي صناعة دقيقة تحتاج لحيز زمني محدود، تهدف إلى الوصول إلى إدراك مفاجئ لبعض مظاهر الحياة التي لا يدركها الناس بوضوح.
لا يمكن أن نحدد الإطار الزمني والجغرافي لظهور النكتة لكونها جزءاً من الأدب الشفهي الذي أنتجته الشعوب عبر تطورها التاريخي، ويمكن ربطها بنشوء اللغة وتطورها من جهة، وتطور وتعقد الحياة الإنسانية من جهة أخرى، ونعتقد أن ظهورها كان حاجة إنسانية شأنها شأن الفنون الأخرى، إنها موجودة حيث وجد الإنسان، بدأت مع الإنسان، فلم تكن وليدة عصر معين، وأقدم نكتة مدونة تم العثور عليها على ورق بردي فرعوني؛ حيث يعود تاريخها إلى سنة 3200 قبل الميلاد، وتقول: كان أحد الكتبة يعمل في غرفة بمعبد "تحوت" فأزعجته الجلبة المنبعثة من الغرفتين اللتين تحيطان بغرفته، وكان يقيم في إحداهما نجار وفي الأخرى حداد، ولما أوشك أن يجن من الضوضاء قصد النجار ودفع إليه مبلغاً من المال لكي يغادر غرفته إلى غرفة أخرى، ثم فعل ذلك مع الحداد، وقبل الرجلان، وفي اليوم التالي انتقل الحداد إلى غرفة النجار، وانتقل النجار إلى غرفة الحداد، وظل الوضع على ما هو عليه ولم يتغير شيء.
وعلى مدى العصور ظلت النكتة حاضرة تعيش مع الناس وتعبر عن ظروفهم الاجتماعية والسياسية، ومع توالي السنين وتعقد الحياة لعبت النكتة دوراً فاعلاً في حياة الإنسان، معبّرة عن تفاعله مع الأحداث، فصار بحاجة إلى التنفيس عن همومه التي تتكاثر من حيث يدري ولا يدري، فصار لها مكانة في الأدب وفي المجتمع، وفي حياة الفرد يطل منها الإنسان على فضاء رحب من بهجة النفس، حيث أشكال الضحك ودرجاته هي الاستجابة المباشرة ودون عناء فكر لما يرويه هذا الأدب، أدب النكتة.
والنكتة في الأدب يقابلها الرسم الكاريكاتيري الذي يحمل رسائل مختلفة، منها الساخرة وغير الساخرة، والصورة المرسومة تكون بألف كلمة للتعبير عن فكرة سياسية معينة.
ويتميز أدب النكتة عن بقية أشكال الأدب أن كلماتها بحد ذاتها لا تحمل المعنى أو المغزى المقصود، بل إن تلك الكلمات تحفز الذهن لاستقراء المعنى المقصود من صاحب النكتة، وهكذا يوصل أديب النكتة، المُنَكِّتْ، الرسالة التي يقصدها إلى ذهن القارئ أو المستمع، ولظرف هذا الأدب وخفة الإحساس به، فقد اعتاد كثير من الناس حفظ عدد من النكات وسردها شفاهة بين الأهل والأصدقاء خلال لقاءاتهم الاجتماعية، ومعظم النكت تتداول بين الناس شفاهة.
وأدب النكتة يتميز بأنه السهل الممتنع، أدب قليل الكلمات، وسهل التركيب، وسلس التعبير، قصة صغيرة لها تركيبة أدبية وجمالية مضغوطة ومكثفة، إفراز لمشاعر ومواقف وآراء بطريقة لا تدل على شخص صاحبها، وغالباً ما تنشط في حالات الضغط الاجتماعي أو الإحساس بالقهر، ولا يعرف كيف تكتب أصلاً، ومن أين تأتي؟
يلجأ الناس إليها كنوع من التنفيس والتعبير عن التذمر، وتتخذ تعبيرات رمزية تكون في منتهى العمق والذكاء تعبيراً إما عن حالة إحباط ويأس وهزيمة سياسية.
يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون: "لا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة هي محاولة قهر القهر.. وهتاف الصامتين.. إنها نزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه.. فهي سلاح المهموم يحملها معه بين الطرق المزدوجة بالاكتئاب والمكتظة بالشعور، بالحرمان، والشعور بالمعاناة ناهيك عن قلق ضغوط الحياة الناتج عن مختلف تجليات الواقع المر والزمن الرديء".
نتاج فكري طريف وآلية من آليات الهزل والضحك ووسيلة للتنفيس والتعبير عن الإحساسات والأفكار المحرمة والمكبوتة يطال كافة شرائح المجتمع.. لا تدع أحداً.. تطال الأغنياء والفقراء، الأغبياء والأذكياء، الصالحين والطالحين، الطيبين والأشرار.. إنها تعبير خيالي طريف ومضحك يثير أحياناً السخرية وأحياناً أخرى الشفقة لما تسعى إليه من مبالغة وتهويل، فينفس المتلقي وأحياناً تبسيط وتسطيح للأمور.
وهناك أجيال خرجوا إلى الوجود وهم يضحكون ولا يدرون لماذا؟! أجيال تضحك في السراء والضراء، وقت الرخاء ووقت الأزمات، يضحكون قبل الأكل وبعد الأكل، يضحكون حين البرد والحر، وأحياناً كثيرة يضحكون في كل الأوقات إلا في وقت الضحك الحقيقي، فإنهم يجهشون بالبكاء.
ويرى علماء الاجتماع أن النكتة تعتبر دليلاً على حيوية الشعب واهتماماته ورغبته في تجاوز الأمر الواقع وعدم الاستسلام له، وفسرت المدرسة الفرويدية النكتة على أنها نوع من أنواع التعبير عن اللاشعور والأفكار غير المعلنة، وأسلوب لتمرير الأفكار بطريقة يتقبلها الآخر بسهولة أكبر، وبدون كثير نقاش؛ وأن قوة النكتة تكمن في هدفها، وعادة تكون الأفكار غير المعلنة مؤلمة ومستفزة تؤدي إلى صراع نفسي كبير لدى الفرد، وتعبر النكتة عن نقد لواقع يصعب نقده بشكل مباشر وصريح، إنها تستمد أشكالها ومضامينها مما هو مكبوت في المجتمعات؛ لذلك يلجأ الناس عادة إلى النقد عن طريق النكت.
أما المدرسة التحليلية فتقول: إن الفرد يضحك للنكات الأكثر استفزازاً وإيلاماً للذات، وترى أنه يمكن اكتشاف اللاشعور لدى أي شخص من خلال تحليل ودراسة ما يثير ضحكه.
والتعريف اللغوي يشير وبقوة إلى الطابع النقدي المعنوي للنكتة، فهي تكشف العيوب والمثالب وتهزها، وتضربها بالسخرية الشديدة، وهناك كلمة تشبه كلمة "التنكيت" في المعنى هي كلمة "التبكيت"، وهي كما جاء في لسان العرب الضرب بالعصا والسيف واليد ونحوها، وهو أيضاً: التقريع والتوبيخ، ونذكر هنا أن عبد الله النديم أصدر مجلة سمّاها "التنكيت والتبكيت" كانت تهاجم المستعمرين والفاسدين بسخرية وتهكّم.
هناك علاقة طردية بين النكتة وحرية التعبير والرأي؛ إذ كلما ضاقت مساحة وحرية التعبير في المجتمع ازداد انتشار النكتة وتداولها، بل وزادت كمية السخرية في محتواها لتضحى كوميديا سوداء؛ إذ إن سياسات الدول وقراراتها ورموزها تشكل موضوعات أساسية للنكتة تتضمن كمية من السخرية القاسية، فالاستبداد والبطش والقمع تدفع دفعاً إلى ابتكار أساليب جديدة في التعبير يغلب عليها الطابع الرمزي، بل الإغراق في الرمزية، والعديد من الزعماء السياسيين يتابعون النكتة، خاصة السياسية منها، التي يرددها الشارع، ويعتبرونها كاستطلاع رأي لسياساتهم ومواقفهم وتصرفاتهم، وآخرون يعتبرونها مؤشراً لصعود أو هبوط شعبيتهم.
وهناك فرق كبير بين الأدب الساخر والأدب الضاحك والمتمثل في النكات الشفوية.
الأديب الفلسطيني غسان كنفاني وهو ممن كتبوا المقالات الساخرة، يقول في تعريفه للكتابة الساخرة: "إن السخرية ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعاً خاصاً من التحليل العميق، إن الفارق بين "صاحب النكتة" والكاتب الساخر يشابه الفارق بين الحنطور والطائرة، وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فإنه يضحى مهرجاً.. ففي نظر الأدباء والصحفيين السخرية ليست هدفاً بقدر ما هي شكل من أشكال التعبير عن الآلام والأحلام والأحداث، وأمور الحياة اليومية، والسخرية السياسية أحد أشكال الإبداع، وقد برز كتاب وفنانون ساخرون على مدار التاريخ، وليس بعيداً عن الثقافة العربية، الجاحظ والمتنبي والتوحيدي وابن الرومي وابن المقفع وآخرون، وعن الثقافة العالمية سقراط وشكسبير وبريخت وغيرهم، ولتعريف النكتة نحدد بعض الأسس التي تساعدنا في فهم وتعريف الظاهرة:
النكتة جهد إنساني يتشكل في إطار اجتماعي وفي ظروف محددة.
النكتة أسلوب غير منطقي، وتضخيم المظاهر والسلوكيات الواقعية بشكل كاريكاتيري.
اللغة والإشارة أدوات لإيصال النكتة وتفقد الكثير من النكات جماليتها حين ترجمتها إلى لغة أو لهجة أخرى.
إن الشعوب تختلف باستقبالها للنكات من منطقة لأخرى، ومن عصر لآخر، ففي بريطانيا وأيرلندا وأستراليا ونيوزيلندا يفضلون النكات التي تشمل اللعب بالألفاظ بينما يفضل الأميركيون والكنديون النكات التي يبدو أبطالها أغبياء، أما الأوروبيون فإنهم يفضلون النكات ذات الطابع الذهني.
للنكتة هدف أيديولوجي، وهي ليست بعيدة عن الصراعات التي تعيشها المجتمعات.
ويمكننا أن نعرف النكتة بأنها "كاريكاتير الحياة الإنسانية مصوغة بكلمات وفي إطار زمني وظروف اجتماعية محددة تهدف إلى غايات إنسانية، يستلزم لإضفاء روح المرح والسعادة في الإنسان بشكل مباشر وتعزيز وعيه الاجتماعي بشكل غير مباشر"، إنها وظيفة اجتماعية للتواصل مع الناس ولتحقيق التفاعل بين الأفراد والجماعات، وللتحكم في سلوك الآخرين بالسخرية أو إزالة الخوف، ولمهاجمة السلطة السياسية والدينية والاجتماعية، وفي نقل المعلومات باتجاه تحذير الناس وتعزيز التماسك الاجتماعي، وتحديد أنماط السلوك المقبول عبر النقد والسخرية والكشف عن العيوب الاجتماعية، وتعديل القرارات الخاطئة وتحسين الظروف السيئة؛ لأن العالم من حولنا لا يعرض نفسه لنا في وضوح لكي نتبين تفاصيله فنبتعد عن القبيح فيه ونخطو في اتجاه الجميل، ذلك لأن القبح فيه قادر على إخفاء نفسه بعيداً عن أبصار البشر تحت طبقات كثيفة من الأكاذيب والشعارات والملصقات المزخرفة، ولنتعرف على هذا القبح والإمساك به وعرضه على الناس في وضح النهار، يتطلب الأمر قوةً خاصةً، قوة خارقة قادرة وبسرعة مذهلة على اختراق طبقات الزيف؛ للوصول إلى القبح والقبض عليه وعرضه على أولي الألباب، هذه القوة هي النكتة، قوة كاشفة وبوصلة تتجه دائماً إلى الحقيقة، حقيقة عيوب النفس البشرية وآليات الخلل في تفكير أصحاب هذه العيوب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.