التربية والتعليم مشروع عظيم، ولها من التأثير على مصير الإنسان ما يدعو إلى عدم الاقتصار على دراسة بنياتها ووسائلها التطبيقية وطرائقها، بل من الواجب أن نتعمق، ونُعيد النظر في دراسة جوهر التربية، وعلاقتها بالإنسان، ومآلها، وتفاعلها مع البيئة؛ لأنها من جهة وليدة المجتمع، ومن جهة أخرى، عنصر يؤثر في المجتمع.
ثم ألم يحِن الوقت بعد كما ذكر (إيدجار فور وآخرون، في كتاب تعلم لتكون) لرسم أهداف أخرى للتربية؟ أهداف من النوع الآتي: تعلَّم كيف تعيش، تعلَّم كيف تتعلم حتى تكتسب دائماً معلومات جديدة طوال حياتك، تعلَّم كيف تفكر بطريقة حرة، وكيف تنقد نقداً بناءً، تعلَّم كيف تحب العالم وكيف تجعله عالماً تسوده الرحمة، تعلَّم كيف تنمي مواهبك عن طريق العمل المبدع.
والحقيقة أن الديمقراطية وتكافؤ الفرص في مجال التربية والتعليم لا تتحقق عن طريق الإكثار من المدارس والمعاهد والجامعات وحدها، أو عن طريق تسهيل الانخراط في مختلف مراحل التعليم، أو إطالة مدة الدراسة.
فالاقتصار على هذه الأمور معناه إهمال الحلول الأخرى التي من شأنها أن تمكِّن الفرد من تنمية قابلياته، وأن تأخذ بيده لتحقيق مصيره.
والتربية كما يشير إلى ذلك (السورطي) "نبت لا يصلح إلا في بيئته، ولا ينمو إلا من سقي أهله، ولا قيمة له إذا فقد جذوره الأصلية، وإلا فما الفوائد المتوخّاة من تطبيق النظريات التربوية الغربية والأميركية بوجه خاص في كليات أو دوائر وأقسام التربية في جامعاتنا، وأحياناً في بعض وزارات التربية والتعليم؟ وما الفوائد التي أفادها نظامنا التربوي من جميع الدراسات والرسائل العلمية التي أُقيمت حول التطبيق المفروض بتعسّف لهذه النظريات في مدارسنا، وعلى أبنائنا الطلاب، وزملائنا المعلمين؟
لقد أصبح الفقر التربوي في (المثل الأعلى) مرضاً مزمناً في الواقع العربي كما أكَّد ذلك (ماجد الكيلاني)، وزاد في استعصاء هذا الفقر وزيادة مضاعفاته، النفاق الثقافي والتربوي الذي صنع -وما زال يصنع- من القيادات والولاءات العصبية مثلاً أعلى للناشئة في الأقطار والأقاليم العربية والإسلامية. وزاد في فقر المثل الأعلى التناقض الحاد بين التنظير والتطبيق والسياسات المزدوجة التي يمارسها وزراء التربية والتعليم ومساعدوهم، فهم في اللقاءات التي يعقدونها والاتفاقيات التي يتوصلون إليها تحت مظلّة المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم، وفي الإصدارات الرسمية واللوائح القانونية وكراريس السياسات التعليمية يملأون المجلدات عن ضرورة تركيز أهداف التربية على تنمية الولاء للوحدة العربية والتراث الإسلامي والقيم الثقافية الأصيلة، ولكنهم في ميدان التطبيق يملأون الكتب المدرسية ويوجهون النشاطات التربوية لتعزيز عبادة الفرد الحاكم، والولاء الإقليمي، وتمرير المشورات الأجنبية في النَّيل من الثقافة والتربية والتعليم.
كذلك أسهمت المؤسسات التربوية الأجنبية من المدارس الخاصة والجامعات في تغريب الناشئة ودفعهم إلى تبنّي (مثل سوء) مستوردة من الفلسفات والأيديولوجيات التي تقاسمت ولاءات الناشئة العرب والمسلمين وجعلتهم (شيعاً وأحزاباً) متباغضة مضت في تناحرها إلى المدى الذي جعلها يقاتل بعضها بعضاً، وتستنزف الطاقات وتهدر الموارد البشرية والمادية.
وكانت محصلة ذلك كله أن صار (المثل الأعلى) عند الإنسان العربي المسلم من الناحية الواقعية (دوران حول الذات)، وقليلون هم الذين يدورون حول قيمهم ومبادئهم وباسم أممهم؛ ليصبح هذا الدوران الفردي حول الذات سبيلاً إلى تحسين الحالة المادية للفرد الواحد تحت أي لواء، وفي أي بلد يمنحه جنسيته ويقبله مهاجراً إليه.
وربما تكون السمة الأسوأ للعالم الإسلامي المعاصر هي إفلاسه في حقل التربية والتعليم. فلا توجد بأي بلد إسلامي مؤسسة واحدة تحتضن الطفل المسلم من سن الخامسة وترعاه إلى أن تسلمه للأمة، وقد استوت قابلياته الكامنة على سوقها، كما قال الشهيد إسماعيل الفاروقي.
ولأن عقل المثقف كما وضَّح ذلك (محمود شاكر في تقديمه لكتاب مالك بن نبي الظاهرة القرآنية) يتكون يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، وهو يتقبَّل بالتربية والتعليم والاجتماع، أشياء يتكيف عليها بالإلف الطويل وبالعرض المتواصل، وبالمكر الخفي، وبالجدل المضلل، وبالمراد المتلون، وبالهوى المتغلب، وبضروب مختلفة من الكيد الذي يعمل في تحطيم البناء القائم؛ لكي يقيم العدو على أنقاضه بناء كالذي يريد ويرجو.
لقد أصبحت ثمرات هذا التسطيح ما هو قائم -الآن- في معاهد التربية والتعليم؛ حيث توجد أفواج من الدارسين والمدرسين الذين يتعصبون للإسلام والتراث الإسلامي دون أن يقرأوه، ويهاجمون الفلسفات والعلوم الأخرى غير الإسلامية دون أن يقرأوا مصدراً واحداً من مصادرها الأصلية.
إن الأزمة في حقيقتها حسب وجهة نظر (الغنوشي) ليست أزمة نقص في التعليم وضعف في وسائله وإمكانياته، بقدر ما هي أزمة انحلال شخصيتنا الحضارية، إنها أزمة فقدان النموذج الحضاري، إنها فقدان الديمقراطية، بل الأساس الثقافي الأصيل الذي تبنى عليه المدرسة والمعهد والجامعة وسائر مؤسسات المجتمع.
ذلك أن الدول المتخلفة على الرغم من الجهود الطائلة التي تبذلها في مجال التربية والتعليم، فإن المشرفين فيها على حظوظ التربية في مستوى التشريع والتنفيذ، من خبراء في وضع البرامج، ومن أساتذة ومديرين، ليسوا على بيِّنة من ملامح وسمات النموذج الثقافي الحضاري للإنسان الذي يريدون لتلك البرامج أن تصنعه، ومثلهم كمثل البنّائين الذين يكدسون أطنان الحجارة والأسمنت والماء والحديد، وينتظرون أن تنتج لهم قصراً، وفي الحقيقة أن كل قصر يتألف من المواد التي كدسوها، ولكن غاب عن هؤلاء السذج أن الأجزاء لا قيمة لها إلا ضمن الكل، ضمن مخطط عام وروح عامة تسري في الكيان، وذلك هو الغائب.
إن مشكلة التربية في بلادنا هي غياب (فلسفة للتربية) منبثقة من ثقافتنا، وقدوة تجسدها، مما يجعل العمل التربوي أقرب إلى التكديس، تكديس المعلومات منه إلى عملية البناء.
كما أن التنسيق بين العلوم أصبح اليوم شرطاً ضرورياً لإثراء نظرية التربية، وهذا الإثراء في حد ذاته أمر لا يمكن الاستغناء عنه.
إن بعض الجوانب من التربية والتعليم لا تزال تشكو من شيء من الإهمال والتفريط، مما أدى إلى ظهور عيوب فيها، واختلالات في توازن برامجها الدراسية وتعد هذه العيوب والاختلالات من أخطر الأمراض التي تعاني منها التربية، وتوجهها وجهة غير صالحة.
ومن جهة أخرى، فإن الفصل بين مقومات التربية: العقلية منها، والبدنية والفنية والأخلاقية والاجتماعية، يُعدُّ قرينة تدل على الاستهانة بشخصية الفرد، ومسخها وتشويهها.
فالقدرات الهائلة التي زوّد الله بها بني آدم يقتلها الناس من خلال التربية والتعليم والوسط المحيط.
وتدل بعض الدراسات على أن الطفل يولد وهو على درجة عالية من القدرة على الإبداع، وأن الأطفال حين تكون أعمارهم بين سنتين وأربع سنوات يكون 95% منهم إبداعيين ومجددين، وإمكاناتهم في ارتقاء ولديهم قدرة على التجريد والتخيل النشط.
إن المشاريع الاقتصادية النهضوية الكبرى مقترنة دائماً بانتشار التربية والتعليم، وهذا ما تؤكده الوقائع الحالية؛ إذ لوحظ أن احتياجات التنمية الاقتصادية وظهور إمكانيات جديدة للشغل، من أقوى الحوافز لازدهار التربية ونموها.
ومن هنا ندرك لماذا أصبحنا نشعر بضرورة ملاءمة التربية لاحتياجات المجتمع ومتطلباته الاقتصادية من جهة، ولرغبات المتعلمين وقابلياتهم من جهة أخرى.
على الرغم من أن الجهود من أجل التلاؤم، ومن أجل مسايرة التطور، شاقة ومرهقة. فتجديد التربية والتعليم ليس بمثابة تجديد أثاث منزل أو ترميم بناء، إنه تجديد في ذهنية القائمين على التعليم، وتجديد في عزائمهم، وتجديد في المواقف التي تتخذها الأسرة والمجتمع والدولة من التعليم.
وهذه الأمور تستغرق وقتاً طويلاً، وقد تستغرق عمر جيل بأكمله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.