تتوالى وتتكرر الرسائل والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي مع كل مناسبة دينية، تدعو إلى المسارعة إلى أعمال الخير، واستغلال الأيام الفاضلة بالصيام والقيام والتهجد والذكر وتلاوة القرآن.
وكلها لا شك أعمال جليلة ورائعة، دعا إليها القرآن الكريم في غير موضع "وافعلوا الخير لعلكم تفلحون"، و"أولئك يسارعون في الخيرات"، و"فاستبقوا الخيرات"، بل إن لفظ الخير ورد في القرآن ما يقرب من مائة وثمانين مرة.
إلا أننا أصبحنا اليوم في حاجة ماسة إلى تعريف معنى ذلك الخير، وتلك الخيرات.
– الخير في اللغة يحمل معنى الأفضلية أو الصالح العام أو النفع للناس.
إذن فما الخير الذي يجب علينا فعله في مثل هذه الأيام الكريمة أو في كل الأيام عموماً؟ وهل هو فقط مجرد صلاة وذكر وقراءة القرآن أو حتى الإنفاق ومساعدة الفقير؟
الله -سبحانه وتعالى- ترك لفظ الخير عاماً مفتوحاً بلا تحديد حتى يشمل جميع أنواع الخير، ولا يقتصر على أنواع محددة من العبادات.
فالخير معنى نسبي متغير حسب حاجة الفرد والمجتمع، أو حسب المكان والزمان، فما يكون خيراً ورائعاً في وقت أو مكان ما، قد لا يكون كذلك في موضع آخر.
مثلاً التصدق بمال هو شيء عظيم، وينمّ عن شخصية تخلَّصت من مرض الشح والبخل، وعن شخص أيقن أن له رباً يحاسب الناس ويأجرهم على أعمالهم، لكن ما فائدة هذا التصدق إذا اتجه مثلاً لإنسان ثري أو غير محتاج؟ هل يعد ذلك فعلاً عظيماً؟ بالطبع لا؛ لأنه حينئذ في غير موضعه.
كذلك لا يجوز لجندي يهاجم الأعداء أرضَه أن يترك واجب الدفاع عن الوطن بحجة صلاة القيام أو التهجد، فالواجب والأولوية هنا هما مواجهة الأعداء والدفاع عن حرمة الأرض والعرض.
فما أولوياتنا الآن؟ أو بمعنى أدق، ما هي أروع أعمال الخير الواجبة علينا في عصرنا الذي نعيشه؟
نحن الآن كأمة لا يخفى حالها على أحد، تسمينا الدول المتقدمة بالعالم الثالث أو الدول المتخلفة، وأصبحنا كما قال الرافعي: "شعب لا يجد أعمالاً كبيرة يتمجد بها".
واقعياً حالنا فعلاً "يصعب على الكافر".. متأخرون جداً في جميع الجوانب العلمية والتكنولوجية، وبالتالي الصناعية والزراعية وغيرها، نستهلك ولا ننتج، ولذلك فإن أعمال الخير الآن التي يجب المسارعة إليها والتنافس لإنجازها هي كل فعل من شأنه النهوض فيما نحن فيه متخلفون، وخاصة في مجال العلم والتكنولوجيا، والأولوية التي يجب أن نبذل جهدنا فيها هي التصنيع والإنتاج والابتكار والاختراع، وكل ما من شأنه تحقيق خطوات على ذلك الطريق.
الواجب الآن هو النهوض بالوطن حضارياً، وأن يقول الصديق لصديقه حين يلقاه ليس القول المشهور "هيّا بنا نؤمن ساعة"، وإنما "هيَّا بنا نصنع ساعة"، سواء ساعة بالمعنى المادي أي الساعة التي نرتديها في أيدينا كرمز لصناعات كثيرة نحتاجها، أو الساعة الزمنية حيث نُعمل الفكر لنصنع ونبتكر وننتج ويساعد بعضنا البعض في ذلك.
إن صلاة القيام أو التراويح أو قراءة القرآن والذكر ليست أعمالاً فريدة تفعلها من أجل وطنك وأمّتك، وهي ليست أروع ما يمكن القيام به في المناسبات العظيمة أو في غيرها، ولا غاية ما يمكن أن يفعله الإنسان من بر وخير، بالطبع هي عبادات جميلة تؤجر عليها من الله، وهي فترات تروح فيها عن نفسك، وتفعلها من أجل نفسك ولا يستفيد منها إلا أنت، فما أجمل قراءة القرآن أو سماعه بصوت رائعٍ رخيمٍ كصوت الشيخ عبد الباسط أو المنشاوي أو الحصري… وكذلك فإن القيام بين يدي الله متعةٌ نفسية ما بعدها متعة.
فإذا كنت ترى أن هذا هو أجلّ ما يمكن عمله، وخاصة في أيام مثل ذكرى مولد الرسول الأعظم أو رمضان أو العشر الأول من ذي الحجة، فإنك مخطئ، فكلها أفعال ترفيه ومتعة نفسية وروحية، وهي أعمال تقوم بها من أجل نفسك.. نفسك أنت، فهل نحن مطالبون بأن نفعل فقط ما هو ممتع لأنفسنا؟!
– الصحابة -رضوان الله عليهم- أنفسهم لو كانوا بيننا الآن، وبما نعرفه عنهم من المبادرة والهمّة العالية والتطلع للرفعة، لرفعوا شعارات تدعو إلى العلم والعمل والتقدم، ولم يكونوا ليرضوا على الإطلاق بأن يكونوا في ذيل الأمم.
اقتصار بعض "المتدينين" أو "الملتزمين" على حفظ القرآن الكريم وبعض الأحاديث، مع بعض الخطب المؤثرة لإلقائها على الناس أو الإكثار من بعض العبادات هو طريق غاية في السهولة، يليق بالكسالى قليلي الحيلة الذين لا يرغبون في الابتكار ولا يحيدون عن التقليد ويرغبون في التقدير دون مجهود، ولو أنهم فعلوا مثل زيد بن ثابت لكان خيراً لهم؛ حين طلب منه النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً تعلم العبرية، فتعلمها في أسبوعين، كما تعلم السريانية في 17 يوماً.
خالد بن يزيد، أول من فتح باب الترجمة من اللغات الأخرى، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء، واهتم بعلم الكيمياء وكان هدفه تحويل المعادن الخسيسة إلى نفيسة، وكان حينما يسأل عن ذلك يقول: أريد أن أغني أصحابي وأهلي وأشبعهم.
(هيَّا بنا نؤمن ساعة) وأمثالها من العبارات العاطفية التي تستهوي الأنفس، تصلح أن تنتشر في أوطان مستقرة متقدمة صنعت حضارة ومجداً يفتخرون به أمام العالم والأجيال؛ لا لشعوب هي في ذيل الحضارات.
– إن رفع مثل هذه الشعارات الآن في هذا العصر هو هروب من الواقع والمسؤولية.
وإذا كان البعض يحدثنا عن تطوير الخطاب الديني، فلتكن البداية بأن يوجه ذلك الخطاب لدفع الناس إلى العلم والعمل والتقدم.
إعادة مفهوم الخير وتصورنا الذهني عنه، وإعادة ترتيب أولوياتنا وشعاراتنا باتت ضرورة، بحيث لا تنحصر في مجموعة من العبادات والأذكار وتلاوة القرآن؛ بل تحفز نحو التطوير والإنتاج وإعمار الأرض.
"افعلوا الخير"، أي: ازرعوا واصنعوا.. "افعلوا الخير"، أي: تعلّم لغة حتى نستطيع أن نقتبس ونتعلم ما نحتاجه من علوم.. "افعلوا الخير"، أي: اجتهد في بحث علمي تنفع به أمتك والبشرية.
الصورة الذهنية عن "المتدين" أو "الملتزم" أو "الولي" أو "العبد الصالح" خاطئة، ويجب تعديلها حتى يصبح هو الأكثر نفعاً للناس، (خير الناس أنفعهم للناس) و(أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.