حرق الفلسطينيون صور الرئيس الأميركي دونالد ترامب في غزة، وأُضيئت أسوار البلدة القديمة بألوان العَلمين الإسرائيلي والأميركي، أمس الأربعاء 6 ديسمبر/كانون الأول، بعدما وَفّى ترامب بتعهُّده الذي قطعه أثناء الحملة الانتخابية المتمثل في الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، حسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
في خطابٍ مُتوقَّعٍ على نحوٍ كبير، ألقاه ترامب في البيت الأبيض، قال الرئيس الأميركي إنَّ "الأمر الصحيح" هو الاعتراف بحقيقة أنَّ القدس مقرٌ للحكومة الإسرائيلية. وقال إنَّ عقوداً من تجنُّب تلك الحقيقة لم تفعل شيئاً يُذكَر لحل النزاع طويل الأمد بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وقال إنَّ الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل "خطوة طال انتظارها لدفع عملية السلام".
وسيتسبِّب اعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل في إبعاد الولايات المتحدة عن واحدةٍ من أهم القضايا الدبلوماسية حساسيةً في العالم. ويتعرَّض القرار لعاصفةٍ من الانتقاد من جانب القادة العرب والأوروبيين، بما في ذلك بعض أقرب حلفاء أميركا.
فقد قال الكثيرون إنَّ خطوة ترامب مُزعزِعة للاستقرار، وتخاطر بتفجير العنف وجعل تحقيق السلام أمراً أكثر صعوبة. وألقى أيضاً بشكوكٍ فيما يتعلَّق بقدرته على الحفاظ على الدور الأميركي الطويل كوسيطٍ في الصراع العربي-الإسرائيلي.
وشملت قطيعة ترامب مع السياسة والإجماع الدوليَّين بدء خطةٍ لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. ومع أنَّ هذا لن يحدث على الفور، اعتبره الفلسطينيون إهانةً كبيرة.
فقال الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بمرارةٍ، إنَّ الولايات المتحدة تخلَّت عن عملية السلام. ووصف صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، القرار بأنَّه تخلٍّ عن حل الدولتين تماماً.
لكنَّ إعلان ترامب حظي بإشاداتٍ في صفوف الإسرائيليين، ليس من حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية فحسب؛ بل ومن المعارضة الليبرالية كذلك. فقال نتنياهو في مقطع فيديو، إنَّ "الشعب اليهودي والدولة اليهودية سيكونان ممتنَّين للأبد"، واصفاً قرار ترامب بـ"الشجاع والتاريخي".
دعوات لانتفاضة ثالثة
استعد الإسرائيليون للعنف، بعدما دعا بعض القادة الفلسطينيين إلى انتفاضةٍ ثالثة، أو انتفاضةٍ مُسلَّحة.
ودعت حركتا فتح وحماس وفصائل فلسطينية أخرى إلى إضرابٍ عام، الخميس 7 ديسمبر/كانون الأول، وحثَّتا سكان الضفة الغربية وغزة على الخروج في مسيراتٍ بكل المدن، وقال مسؤولون إنَّ المدارس الفلسطينية ستُغلَق.
وقالت حماس إنَّ قرار ترامب "سيفتح أبواب جهنم"، ووصفته حركة الجهاد الإسلامي بأنَّه "إعلان حرب".
ومنعت القنصلية العامة للولايات المتحدة بالقدس الموظفين الحكوميين الأميركيين وعائلاتهم من زيارة البلدة القديمة في القدس والضفة الغربية، بما في ذلك مدينة بيت لحم، التي تزيَّنت بالفعل استعداداً لأعياد الميلاد. وسُمِح للموظفين الحكوميين بإجراء الزيارات الضرورية فقط. ونُصِح المواطنون الأميركيون بتجنُّب الحشود.
وفي الأردن، قالت السفارة الأميركية إنَّها علَّقت خدماتها العامة الروتينية، وقلَّصت التحرُّكات العامة لموظفيها وعائلاتهم، وأمرتهم بعدم إرسال أطفالهم إلى المدارس الخميس.
لكن حتى بعد إدانة القادة العرب والمسلمين في أنحاء الشرق الأوسط إعلان ترامب، ثارت الشكوك بشأن قدرتهم على التعبير عن الغضب. وتراجعت أهمية القضية الفلسطينية، التي ظلَّت طويلاً قوة مُلزِمة في السياسة العربية، في السنوات الأخيرة، وطغت عليها الصراعات الأخرى. ومع ذلك، خاطر القرار الأميركي بحدوث رد فعلٍ عنيف غير مُتوقَّع النتائج.
ولم يُفرِّق ترامب بين الأجزاء الغربية من القدس والقدس الشرقية. فقال ناثان ثرال، وهو خبير في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بمجموعة الأزمات الدولية، إنَّ كل معالم البلدة القديمة التي استحضرها -الحائط الغربي (حائط البراق) المُقدَّس لدى اليهود، ودرب الصليب المُقدَّس لدى المسيحيين، والمسجد الأقصى الذي يعتز به المسلمون- تقع شرق خط 1967، ضمن المنطقة التي لا يزال بقية العالم يعتبرها أراضي محتلة.
وقال دانيال كورتزر، الأستاذ بجامعة برينستون والسفير الأميركي السابق لدى إسرائيل في ظل إدارة جورج بوش الابن، إنَّ صيغة ترامب بأنَّ الولايات المتحدة "ستدعم حل الدولتين إن تَوافق عليه كلا الجانبين" ترقى إلى كونها تراجعاً عن سياسة الولايات المتحدة الداعمة بصورة قاطعة لحل الدولتين.
وأضاف: "لا يوجد في الحقيقة ما يتمسَّك به عباس في حال كان يرغب في البقاء داخل اللعبة مع الولايات المتحدة".
حجج واهية للبيت الأبيض
كان قرار ترامب مدفوعاً بتعهُّدٍ انتخابي. فقد تودَّد إلى الناخبين الإنجيليين واليهود الأميركيين الداعمين بحماسة لإسرائيل في أثناء ترشُّحه للرئاسة في 2016، من خلال التعهُّد بنقل السفارة. وقال المستشارون إنَّه عازمٌ على الوفاء بوعده.
لكنَّ الرئيس لا يزال يعتزم توقيع تأجيلٍ مُتعلِّق بالأمن القومي لإبقاء السفارة في تل أبيب 6 أشهر إضافية، حتى في ظل مُضي خطط النقل قُدُماً.
وجادل مسؤولو البيت الأبيض بأنَّ قرار ترامب من شأنه تعزيز مصداقيته كصانع للسلام، وذلك بإظهار أنَّه يمكن الوثوق به في الوفاء بتعهُّداته. واحتجوا أيضاً بأنَّ ترامب، بإبعاده قضية القدس الخلافية عن طاولة المفاوضات، قد أزاح مصدر غموضٍ متكرر.
لكنَّ عباس رفض تلك الحجج، وقال في خطابٍ متلفز مساء الأربعاء، إنَّ إجراءات ترامب "تُشكِّل تقويضاً مُتعمَّداً لجميع الجهود المبذولة من أجل تحقيق السلام"، وترقى إلى "انسحابٍ" من ممارسة الدور الذي كانت تلعبه أميركا.
وأضاف عباس أنَّ القرارات المتعلقة بالسفارة والاعتراف بالقدس "تُمثِّل أيضاً مكافأة لإسرائيل على تنكُّرها للاتفاقات وتحديها للشرعية الدولية، وتشجيعاً لها على مواصلة سياسة الاحتلال، والاستيطان، والتطهير العرقي".
ومع ذلك، بدا أنَّ الفلسطينيين لا يمتلكون الكثير من الخيارات الجيدة المتاحة، أو أي ردٍ واضح وجاهز.
وأثار البعض فكرة قطع التنسيق الأمني مع إسرائيل، لكنَّ هذا التنسيق يساعد أيضاً في الحفاظ على سلطة عباس. وقد تُعرِّض القطيعة بصورةٍ أقوى مع الولايات المتحدة المبالغ الهائلة من المساعدات التي تتلقاها السلطة الفلسطينية من واشنطن إلى الخطر.
وقال عباس إنَّه سيُركِّز على جهود المصالحة مع حماس لمواجهة التحدي الجديد. لكنَّ إعلان الأميركيين في الحقيقة قد يضر بتلك الجهود.
وقالت ديانا بطو، وهي محامية وناشطة فلسطينية ومستشارة سابقة لعباس، إنَّ عملية السلام قد خذلته. وأضافت: "عليه تغيير تكتيكاته"، مُشيرةً إلى الإجراءات الدولية؛ مثل: حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات على إسرائيل، وتوجيه اتهامات ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية.
وقال ناثان ثرال، المُحلِّل السياسي، إنَّ استراتيجية حل الدولتين كانت تخسر مصداقيتها في صفوف الفلسطينيين منذ بعض الوقت، خصوصاً بين الشباب. وأضاف أنَّ إجراءات ترامب ستدفع مزيداً من الفلسطينيين نحو ما سماه "كفاحاً قائماً على الحقوق من أجل المساواة ودولة واحدة، على غِرار نموذج جنوب إفريقيا، للفلسطينيين".
وتابع: "لا شيء أكثر رمزيةً للفلسطينيين من بلاهة الاستراتيجية التي كان قادتهم ينتهجونها والعجز المطلق لها أمام ما حدث للتوّ في البيت الأبيض اليوم (الأربعاء)".
ويعاني موقف إسرائيل عموماً في العالم حين لا يكون هناك احترام لمفاوضات السلام. لكنَّ الإسرائيليين في اليمين واليسار رفضوا فكرة أنَّ إعلان ترامب يُمثِّل إيذاناً بموت المفاوضات.
فقال إفرايم إنبار، رئيس معهد القدس للدراسات الاستراتيجية، وهو مركز بحثي مُحافِظ: "لا يهم ما يقوله ترامب. ما يهم هو ما إذا كان الفلسطينيون مستعدين للتوصُّل إلى تسوية بشأن هذه القضية أم لا".
ومع ذلك، قد يواجه نتنياهو الآن مجموعة جديدة من المشكلات السياسية الناتجة عن إعلان ترامب، بما في ذلك ضغط متزايد من الحلفاء الرئيسيين لتأكيد أفضلية إسرائيل على الفلسطينيين.
وبالفعل، هناك مسعى لإعادة رسم حدود القدس؛ لإخراج الكثير من العرب وإضافة عشرات الآلاف من السكان إلى المستوطنات الإسرائيلية.
وقال دانيال كورتزر إنَّ "المشكلة التي سيواجهها هي: هل سيكون الآن قادراً على السيطرة على شهية أولئك المشاركين في ائتلافه الذين يريدون القيام بالمزيد؟".
وحذَّر آخرون من أن إسرائيل قد تضطر إلى دفع ثمنٍ في المستقبل إذا ما عرض ترامب -بافتراض جديته بشأن صنع السلام- تقديم تنازل للفلسطينيين.
فقال نحمان شاي، عضو حزب العمل الإسرائيلي والنائب بالكنيست: "في المرة المقبلة، سيريد ترامب شيئاً ما من إسرائيل. وأرغب في رؤية من سيقول (لا)".