الكل عازم على الاعتزال، والكل عازم على الاكتفاء الذاتي، لكن هيهات هيهات، لا اكتفاء ولا اعتزال، الكل مصاب بلعنة الزيف والافتراء على الذات، الجميع يكذب في صدقه، والجميع يصدق في كذبه، وفي ذلك أيضا زيف.
إن ظاهرة الزيف في مجتمعنا أصبحت ثاني أكثر الظواهر انتشاراً بعد ظاهرة "يا بت انتي مراتي"، فيما جاءت ظاهرة "شرب شاي العصرية" في المرتبة الثالثة، بعدما سبقتها ظاهرة "الزيف"؛ أصبح الزيف في العلاقات أكثر ما يبتاع، فأينما ذهبت ووليت قبلتك وجدت الزيف، الزيف والادعاء مفاهيم تلطيف انتشرت مؤخراً، فأنا دائماً أزيف الحقائق في مقابل إرضائي وإرضاء رغبتي في أنني على حق دائماً، ولا أعترف بأن فلاناً على حق، حتى وإن كان على حق بالفعل، وكيف لا أبقى كذلك والكل كذلك!
يقول ابن عطاء الله السكندري: "شتان بين أهل السعادة وأهل الشقاوة، فأهل السعادة إذا رأوا إنساناً على معصية أنكروا عليه الظاهر، ودعوا له في الباطن، ينكرون عليه تشفياً فيه، وربما ثلبوا عليه عرضه، فالمؤمن من كان ناصحاً لأخيه في الخلوة، ساتراً له في الجلوة، وأهل الشقاوة بالعكس: إذا رأوا إنساناً على معصية أغلقوا عليه الباب وفضحوه فيها، فهؤلاء لا تنور بصائرهم وهم عند الله مبعدون".
أنا لا أبرر موقفي في أنني دائماً أكون على حق بحجة قول السكندري، ولكن أنا بشر وأعلم أنني على غير الحق، ولكن قلما أجد النصح بل قلما أجد كل ما ذكره السكندري.
يا صديقي، إنك لن تبلغ أرضاً على وجه البسيطة، تسلم فيها من أصحاب النظرة الأحادية، الأرض التي يرى الجميع فيها أنه على حق، لا أحد في تلك الأرض ينزل عن رأيه ويعترف بأحقية غيره، وهو يدرك ذلك، لكن قلما قلما ما نجد من يعترف، ولا تناقض في القلة، وإنما تقرير لأحقيتهم في عدم إدراجهم مع الكثرة.
يا صديقي، تلك الأرض لا تجد شخصاً لا يقدسها، الكل يحب ذاته فيها، والكل لا يرى غير ذاته عليها، الأرض التي يتجرد فيها الإنسان من كل شيء.
نحن نرفض أنصاف الحلول في كل شيء، فإما الميل إلى الأسود أو الأبيض، فالنقيضان لا يجتمعان فلا ميل إلى الرماديات، كذلك إما بقاء ووجوداً، أو رحيلاً واندثاراً.
مؤخراً انتشرت مقولة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "اعتزل ما يؤذيك"، ولأن السوشيال ميديا ما تلبث إلا أن تضع بصمتها في كل شيء، فانتشر تعقيبها على مقولة "اعتزل ما يؤذيك" مردفين جملة: "ولم يقل تحمله"، فالكل اجتمع على المقولة وتعقيبها، والكل قرر الاعتزال، كذلك الكل يدين بفكرة الخيانة في العلاقات، ويرى أنه ضحية لها، والكل يتبنى من اليأس والبؤس قضية له، على كل، إذاً مَن المتهم! الكل يدين والكل يتهم، من المذنب إذاً؟، نحن نعترف بالذنب ولكن أين المذنب؟ فإذا كان كل الأشخاص الذين تبنوا فكرة الانقياد لمقولة ابن الخطاب عمر -رضي الله عنه- إذاً من المؤذي؟ من السبب في نتيجة الاعتزال؟ وقس على ذلك كل ما يعتنقه السوشيال ميديا من أفكار ونتائج أسبابها ومسببها مجهولو الهوية.
كذلك نتبنى فكرة الاعتزال النصفي أو النسبي، وهو أن نعتزلهم ويعتزلونا بمقادير، وأزمنة معينة، أعني أننا وقت الفرح نحن مرغمون على الاعتزال، العالم أصبح يشكل بؤساً علينا، وكأن البؤس خيّم عليه، لكن وقت الحزن أن تعتزل الناس فهذا غباء، فمن المفترض أن تبقى معهم لترى كيفية التنافس في إظهار من منكم الأكثر بؤساً، أصبحنا نتسابق في البؤس والمرض والفشل، فما إن حدثت أحدهم: "أنا مش مذاكر حاجة"، فما تلبث أن تجد الرد "والله ولا أنا، ده أنا مش عارف اسم المواد".
ثقافة أن كل ما فات تناقض لما هو آت منتشرة جداً؛ لأننا نستنبط التناقض من كل ما يحاوطنا، فالبقاء مستنبط من الرحيل، والهدوء مستنبط من الضوضاء، واليأس مستنبط من الأمل، كذلك الحقيقة مستنبطة من الواقع، لا تقتنع بأن الحقيقه والواقع بينهما تناقض أليس كذلك؟ لكن دعني أثبت لك هذا، الواقع والحقيقة في المعنى بينهما تقارب، ولكن نحن نعلم أن الحق حقيقة؟ بالطبع فالحق حقيقة الكل مؤمن بها، لكن هل الحق واقع؟! بالطبع في واقعنا لا نرى تجسيد الحق فيه، إذاً فالحقيقة هي تناقض الواقع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.