خمدت المعارك في محيط المنزل، وتوقفت الرشاشات والمدافع عن إطلاق النيران، وحوله كان العشرات من المسلحين يبددون زمهرير شتاء صنعاء البارد بأنفاسهم الحارة والمتلاحقة، وكان أحد قادتهم يجري اتصالاً هاتفياً، وجاء الأمر، "اعدموه".
ربما كانت تلك الكلمة الأخيرة، التي سمعها الرجل السبعيني، ومعها دارت في مخيلته 75 عاماً من تفاصيل الحياة العسكرية والسياسية، منها 33 عاماً كان فيها الرجل الأشهر في البلاد، الواقعة في الجنوب الغربي من الجزيرة العربية.
وبدأت معها احتفالات جماعة "أنصار الله" (الحوثي) بالنصر، ليل الأحد الماضي، لكن الخبر لم يُعلن عن مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، إلا ظهر اليوم التالي، حسبما يروي قيادي في حزب المؤتمر الشعبي العام باليمن، للأناضول.
ويضيف القيادي، الذي فضَّل عدم ذكر اسمه، أن صالح قرَّر القتال مع المئات من القوات الموالية له، في منزله "الثنية" بحي الكميم في الحي السياسي، جنوبي العاصمة صنعاء، في الوقت الذي كان المسلحون الحوثيون يتقدمون بدباباتهم وعرباتهم المدرعة نحو المنزل.
وفي المربع السَّكني، الذي لا تتجاوز مساحته 3 كيلومترات، بدا الرجل ببندقيته وهو الذي فارق الزي العسكري قبل 39 عاماً، عند جلوسه على كرسي الحكم، باعتباره الرئيس الخامس للجمهورية العربية اليمنية، أحد المقاتلين الميدانيين المخضرمين.
كانت المدفعية الثقيلة والدبابات تضرب بعنف أسوار المنزل والمنازل المحيطة به، وكان العشرات من حراسة صالح الشخصية الذين يقاتلون بالرشاشات يسقطون قتلى، واحداً تلو الآخر، حسبما يفيد المصدر.
ومع مرور الساعات كان الحوثيون يضيقون الخناق على المنزل أكثر فأكثر، بإسناد كثيف من الدبابات وصواريخ الكتف، في الوقت الذي كان العشرات من حول صالح، يستميتون في الدفاع عن معقلهم الأخير.
كان المنزل المشهور بـ"بيت الثنية"، الذي بناه صالح، عقب توليه الرئاسة في العام 1978، يقي العشرات من المقاتلين الضربات المدفعية، لكن مع اشتداد القصف أيقنت حراسة صالح أن المنزل لن يصمد كثيراً، وفق المصدر.
وقبل أن يعتلي سدة الحكم، كان صالح يسكن في منزله السابق في حي الدجاج قرب مصنع الغزل والنسيج، شمالي المدينة.
لكن منزل "الثنية" الذي قصفته مقاتلات التحالف العربي، الذي تقوده السعودية، في 9 مايو/أيار 2015، وأصبح متداعياً، كان يتعرض للعشرات من القذائف في الدقيقة الواحدة.
وبالعودة للقصف، الذي تعرَّض له المنزل من قِبل المقاتلات الحربية، فإن صالح ظهر في اليوم التالي أمام المنزل، وأعلن انضمام قواته إلى جماعة الحوثيين في الحرب ضد القوات الحكومية التابعة للرئيس عبد ربه منصور هادي، والتحالف العربي.
وحينها، قال وهو يرتدي بزة رسمية مع نظارة شمسية، في خطاب متلفز بثته قناة "اليمن اليوم" المملوكة له والناطقة باسمه، إن "الشعب اليمني كله سيتحالف مع من يدافع عن مقدرات الوطن، وهذه المنازل (وهو يشير لمنزله بيمناه) سنعوضها".
انهيار منزله
لكن في الساعات الأخيرة من حياته، كان صالح يشهد انهيار منزله مع حراسته الشخصية أمام تقدم الحوثيين.
وبحسب القيادي في الحزب فإن الحوثيين كانوا يُحكمون الحصار على آخر المنازل المحيطة بمنزل صالح، وفرضوا عدة أطواق أمنية، بينما كانت الدبابات ترسل قذائفها باتجاه القلعة الأخيرة لصالح.
وقال "بموازاة ذلك كان المئات من المسلحين الحوثيين يقودهم عدد من القيادات الميدانية، يُعتقد أن القيادي البارز أبو علي الحاكم (رئيس الاستخبارات في حكومة الحوثيين) كان أحد قادة الهجوم".
ورغم شراسة الهجوم، كان حراس صالح يشكلون حائط صد منيعاً، إثر ذلك سقط العشرات من الحوثيين قتلى، لكن نقطة التحول في سير المعارك كانت مقتل قائد المقاومة في المنزل، العميد طارق صالح، نجل شقيق صالح.
في جامع المنزل، اصطفَّ صالح مع الأمين العام لحزبه (الجناج الموالي له بحزب المؤتمر الشعبي) عارف الزوكا وآخرين للصلاة على جنازة طارق، والأخير كان مضرجاً بدمائه، طبقاً للمصدر.
بعد أقل من نصف ساعة، أُصيب شقيق طارق، العقيد محمد صالح، بشظية قذيفة، إلى جانب العقيد أحمد صالح الرحبي الحارس الشخصي لصالح.
بدأ خط المقاومة في الانهيار، مع مقتل قائد المقاومة طارق ونائبه محمد، ومعها تجاوز المسلحون الحوثيون أسوار المنزل، وسط مقاومة شرسة من صالح، الذي كان لا يزال يرتدي بزته المدنية، بالإضافة إلى حراسه المعدودين.
الفصل الأخير من المعارك
استمرت المعارك إلى فصلها الأخير، واقتحم المسلحون الحوثيون المنزل الذي كان يصطف أمامه العشرات من الحراس قرابة 4 عقود، وللمرة الأولى كان المسلحون بسمتهم القبلي يقفون أمام المشير الذي كان جريحاً، وتنزف منه الدماء بإحدى ردهات المنزل، وفق حديث المصدر.
وأضاف "بدأ المسلحون الحوثيون في توجيه إهانات لفظية لصالح، واعتدوا عليه بالضرب، فيما كان هو خائر القوى أمامهم، ولذلك أظهرت الصور التي أوردها الحوثيون آثار تعذيب وكدمات على وجهه، وخاصة جمجمته".
وتابع "قيَّدوا يديه ورجليه إلى الخلف والدماء تنزف منه، وبدأ القائد الذي اقتحم المنزل بإجراء اتصال مع زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، وبعد حديث مقتضب بين الاثنين، وجَّه الحوثي القائد الميداني بإعدام صالح".
وأضاف: "وجّه أحد المسلحين السلاح إلى رأسه، وأطلق عليه النار".
وبحسب المصدر فإن "الحوثيين أجّلوا إعلان مقتل صالح إلى اليوم الثاني، بعد أن نفَّذوا مسرحية هروبه إلى مديرية سنحان ومقتله هناك، لكي يظهر لأنصاره أنه كان يريد التوجه إلى مأرب، والالتحاق بالقوات الحكومية".
وكان الحوثيون قد نشروا معلومات بأن صالح قُتل مع عارف الزوكا وحراسه الشخصيين، وهو يحاول مغادرة صنعاء، باتجاه مديرية سنحان مسقط رأسه، في منطقة الجحشي (48 كم جنوب صنعاء).
كما روّجوا لاتصال هاتفي بين شخصين من القرية، أحدهما يؤكد أن "الحوثيين اعترضوا موكبه، وأطلقوا عليه النيران هناك".
شهود على لحظاته الأخيرة
ومن بين الشهود على اللحظات الأخيرة لصالح، كان الزوكا، الذي أُصيب هو الآخر خلال عملية اقتحام المنزل، وجرى نقله من قِبل الحوثيين إلى مستشفى 48، جنوبي العاصمة صنعاء.
ووفق المصدر "هناك في المستشفى، صفّى الحوثيون الزوكا كونه كان شاهداً على تفاصيل كل ما حصل".
وأضاف أن الحوثيين نقلوا أيضاً العقيد محمد صالح والعقيد الرحبي إلى المستشفى الألماني، شمالي صنعاء، وبعد تقديم الإسعافات اللازمة لهما، تم أخذهما من قبل الحوثيين إلى منطقة مجهولة.
ورجَّح المصدر وفاة الرحبي، كون إصابته كانت خطيرة.
وحول أبناء صالح الذين كانوا معه، قال المصدر "كان هناك اثنان من أبناء صالح معه في ساعاته الأخيرة، أحدهما ريدان النجل الأصغر، وجرى خطفه من قِبل الحوثيين، فيما لا يزال مصير صلاح مجهولاً حتى اللحظة".
وأضاف "وزير الداخلية بالحكومة التي كانت مشكلة بين الحوثيين وصالح، اللواء محمد القوسي، أيضاً لا يزال مصيره مجهولاً، فيما العشرات من الجثث كانت تملأ المكان".
وطبقاً لرواية المصدر فإن من تبقّى من حراسة صالح الذين كانوا على قيد الحياة في الهجوم، جرى تصفيتهم بالكامل من قِبل المسلحين الحوثيين، في المنزل الذي كان شاهداً على نهاية حقبة زمنية من تاريخ اليمن الحديث.
ولم يتسن الحصول على تعقيب فوري من الجانب الحوثي بشأن ما أورده المصدر.
وحتى اللحظة لا تزال جثة صالح مع الحوثيين، ووفق مصدر آخر في حزب المؤتمر، فإن الحوثيين اشترطوا عدم تشريح الجثة مقابل تسليمها، كما اشترطوا أيضاً عدم الإعلان عن موعد دفن صالح، وألا تكون جنازته شعبية، بحيث تقتصر فقط على أقاربه.
وقال المصدر "للأناضول"، إن الحوثيين اشترطوا أيضاً عدم دفنه في حديقة جامع الصالح بصنعاء، خلافاً لوصية سابقة له.
من جهته، قال محمد علي الحوثي، رئيس "اللجنة الثورية العليا"، التابعة لجماعة الحوثي، في وقت سابق، إن عدداً من أبناء صالح، موجودون في المستشفى لتلقي العلاج، ونفى اعتقالهم.
جاء ذلك في كلمة أمام تجمع لأنصار الجماعة، في شارع المطار بصنعاء؛ احتفالاً بانتصارهم على "صالح".
وشهدت صنعاء خلال الأيام الماضية معارك عنيفة بين مسلحي الحوثي وقوات صالح، انتهت بمقتل الأخير وهزيمة قواته.