"لا تذهب إلى السعودية.. ستكون حياتك أكثر بؤساً من صدر الدجاج الملقى على الأرز في ربع الشواية".. اصطدمت بهذا التعليق في أثناء تجوالي وبحثي على موقع التواصل الاجتماعى "فيسبوك" عن آراء الناس في الغربه والخليج أثناء تجهيزي لغربتي الأولى.
لا أدري لماذا علّقت تلك الكلمات في ذهني من بين مئات التعليقات التي تذخر بها مواقع التواصل الاجتماعي؟
حسناً.. الوضع ليس بهذا السوء والبؤس، دعوني أوضح لكم الصورة وأخبركم برأيي وانطباعاتي الشخصية عن الأمر.
بداية.. فأنا لم أسافر بحثاً عن المال في المقام الأول، فوضعي المالى في مصر مستقر إلى حد ما، وكذلك وضعي المهني في عملي، ولكنه الفضول الذي أكل القط بسببه، والسعي نحو مزيد من الخبرة، وأصبح الأمر من البديهيات المسلم بها، فكونك مهندساً في القطاع الخاص يعني بالضرورة أن تمر على الخليج لتفقد الخصلات المتبقية من شعر رأسك، وتأكل المندي والكبسة وتكتسب "الكرش" كعرض إلزامي لا يمكنك رفضه، وأخيراً تعبّ من الأموال بلا توقّف.
لكن يبدو أن معطيات الخليج تغيرت في الفترة الأخيرة، وزمن العمل المستقر والمكاتب المكيفة، والأموال الوفيرة قد انتهى إلى غير رجعة.
اصطدمت بداية باللغة! دعني أوضح لك، أنا مصري وقطعاً أجيد العربية بطلاقة، بالإضافة إلى الإنجليزية، وما تيسر من الإيطالية والفرنسية، ولكن من قال لكم إنهم يتحدثون العربية هنا!
اللغة الرسمية التي تتعامل بها مع الصراف في السوبرماركت، أو عامل البنزينه أو النادل في المطعم أو أي وظيفة لا يشغلها عربي، وما أكثرها هنا! هي لغة عجيبة مزيج من العربية باللهجة السعودية والإنكليزية باللكنة الهندية وقليل من الأردو؛ لتتحول جملة مثل "لا أعرف" إلى "ما في معلوم" و"طفل صغير" إلى "بطشة" و"ضرورة" إلى"ظرورات" و"دوار" إلى "لمونة"، وقِس على ذلك من كلمات ومصطلحات لتتشكل لغة جديدة لها مفرداتها وقواعدها الخاصة.
لا أخفيكم سراً أنني واجهت صعوبات كبيرة في أثناء محاولتي التأقلم مع هذه اللغة أكثر من التي واجهتها في محاولاتي لتعلم الإيطالية، ولكن لكل مجتهد نصيب.
الآن أجيدها بطلاقة -ليست الإيطالية طبعاً- لدرجة أنني أنسى أحياناً وأتحدث بها مع أهلي وأصدقائي، ولكن للأسف لا يمكنني إضافتها لسيرتي الذاتية.
كثيراً ما تسببت ملامحي الشرق آسيوية في كثير من المواقف الطريفة في أثناء وجودي في مصر، فها أنا ذا عائد إلى مدينتي بشنطة ظهر منتفخة لتستوقفني إحدى النسوة وتسألني بكل جدية: "بتبيع إيه يا أخويا في الشنطة دي؟"، ظناً منها أنني أحد الباعة الصينيين المتنقلين الذين غزوا الأزقة والحارات، وهؤلاء مجموعة من الأطفال يتحدثون بكلمات عجيبة على غرار "هونجا بونجا شونجا هلا لو"، ويرفعون بها أصواتهم حينما أمرّ من جوارهم كعادة مصرية أصيلة في الترحيب بذوي الملامح الآسيوية.
بذلت جهداً كبيراً محاولاً إقناع النادل في مطعم المشويات في حي الحلمية بأنني مصري وهو مصمم أنني ماليزي وأدرس في الأزهر، وأجيد اللهجة المصرية لطول إقامتي بها.. "بس على مين. هتحوّر عليا أنا"، هكذا ينتهي الحوار مع النادل منتصراً لوجهة نظره، متيقناً أنني ماليزي أدرس في الأزهر.
وكثيراً ما ساعدتني ملامحي في دخول كثير من الأماكن المغلقة في أثناء عملي تحت شركة يابانية، ويظهر الارتباك على من لا يعرفني من العمال ظناً منهم أنني ممثل للشركة اليابانية.
يمكنني أن أكتب عدة مقالات أملأها بمواقف تعرضت لها بسبب ملامحي، والحمد لله فعنصرية المصريين تجاه مواطني دول شرق آسيا بها نوع من الطرافة ليست مثلاً كعنصريتهم البغيضة تجاه ذوي البشرة السمراء من دول إفريقيا الجنوبية.
لكن هنا في الخليج بهذه الملامح، فالأمر مختلف تماماً يا صديقي.. أنت في خطر محدق.
يأتي معظم قاطني دول شرق آسيا إلى الخليج في مهن متواضعة نوعاً ما، فأصبح أهل البلاد يتعاملون معهم -إلا مَن رحم ربي- بنوع من التعالي والامتهان.
يمكنني أن أخبركم عن فرد الأمن الذي استوقف الجميع خارج البوابة ولما علّم من لهجتي بأني عربي مصري، دعاني للجلوس داخل المكتب وقدم لي الماء البارد، وهذا آخر يعتذر لي قائلاً: "يا ريت ما تنزعج من تعامل بعضهم معك في البداية".. صديقى ذو البشرة السمراء ظل لأكثر من ساعتين يوضح لي أن ليس كافة أهل الخليج عنصريين تجاه غيرهم، والكثير من المواقف المماثلة.
نصحني بعضهم أن أتحدث باللهجة السعودية بادئ الأمر في التعاملات العابرة، كما يفعل كثير من العرب المغتربين، رفضت هذا بشدة فأنا أعتز بلهجتي المصرية، فضلاً عن أن ملامح وجهي ستكشفني من أول وهلة، زيادة على عدم درايتي بهذه اللهجة، فأنا لا أتخيلني أقول: "إيش تبغي" و"ما يصير" إلا على سبيل المزاح محاولاً تقليد اللهجة السعودية.
عامة الأمر مزعج بعض الشيء، أحاول أن أجعله لطيفاً، فأبادرهم بالحديث باللهجة المصرية وأراقب ملامح الاندهاش على وجوههم وتغير المعاملة للأفضل.
بخصوص باقى الجوانب الأساسية للحياة هنا فالأمر جيد، فلا بد لكل وافد من تأمين صحي وهي في أقل درجاته أفضل بكثير من مصر، البنية التحتية جيدة والطرق ممهدة والقيادة مريحة، هناك أسطورة تقول: إنك لو حاولت أن تضلّ طريقك فلن تستطيع من كثرة اللوحات الإرشادية.. متوسط الأسعار جيد مقارنة بمتوسط دخل الفرد، لا أتحدث هنا عن عموم الوافدين أو العمالة الرخيصة قطعاً، ولا تحاول أن تقارن أسعار السلع بمثيلاتها في مصر بعد التعويم وإلا فلن تستطيع العيش، دوريات الشرطة في كل مكان وتبعث الطمأنينة حين رؤيتها على عكس المألوف لدينا.
لا أجد مشكلة في نوعية الطعام، فأنا من محبي استكشاف المطاعم والمطابخ، فأتنقل بين الهندي والباكستاني والماليزي وقطعاً السعودي واليمني وأحنّ دائماً إلى المصري، والطعام عموماً هو من المتع القليلة في هذا البلد.
بمناسبة المطاعم أذكر أنه في يوم العيد الوطني وهو إجازة رسمية؛ حيث تغصّ المتاجر بالعروض وتنتشر عبارات حب الوطن في كل مكان، وأثناء طلبي الغداء المعتاد فوجئت بطبق من الحلوى كهدية بمناسبة هذا اليوم، اندهشت بداية ثم وجدتني أهتف من قلبي ودون تكلف بالعبارة الأشهر حينها: "دام عزك يا وطن".
أخيراً.. هذه بعض انطباعاتي الشخصية في تغريبتي الأولى، قطعاً هي ليست الفترة الأفضل في حياتي، ولم أضف لدولاب ذكرياتي السعيدي الكثير خلال إقامتي هنا، اللهم إلا مواقف معدودة.
لا أدري هل هي الغربة أم أنه الخليج ولعلّها طبيعة عملي كمهندس وعلى الجانب الآخر أضافت التجربة لدولاب خبراتي الحياتية الكثير.
لم أستطِع أن أقيم الأمر ككل حتى الآن، ولكن ما أعلمه جيداً أن الخيار الأفضل نظرياً هو الاستمرار في هذه التجربة حتى إشعار آخر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.