"ما تقلقيش طول ما أنا عايش على وش الدنيا عمر ما حدّ يقدر يعمل لك حاجة"، "أنا حمايتك وأمانك وضهرك"، "يا بني محدش يقدر يعمل لك حاجة طول ما أنا عايش".
كم مرة سمعنا تلك المقولات أو مرادفاتها من كثير حولنا من أب لابنه، من أم لأولادها، من زوج لزوجته، من أخ لأخته.. تبدو مبهرة وبراقة وبالغة في الدعم والحب.
ولكن.. كبشر خُلقنا في دنيا فانية وليست أبدية، نعاني فقداً كل لحظة، نمر فيها في هذه الدنيا، من أول فقد أشيائنا المحببة بكسر أو ضياع، لفقد أرواح تجوب حولنا كالحيوانات الأليفة، لفقد بشر غالين علينا بسفر أو موت أو سجن، لفقد أماكن عشنا فيها يوماً وكانت لنا فيها ذكريات.
قالها المبعوث رحمة للعالمين محمد منذ أكثر من ألف عام: "أحبب ما شئت فإنك مفارقة"، ببلاغة منقطعة النظير لخَّص لنا قانون الدنيا الأهم.
جاءني صغيري منذ أيام بعد عودته من المدرسة، وجلس يسألني: لماذا لم يعُد يأتي صديقي يوسف للمدرسة منذ بدأنا؟ أخبرته لقد انتقل إلى أخرى، ولن يجيء مرة ثانية للمدرسة.
نظر إليَّ نظرة حزينة وهو يسأل: لماذا ترك المدرسة؟ فجلست أخبره كيف يختار الناس اختيارات متعددة؟ وكيف يقيمون الأمور، ولكني في وسط كلامي نظرت إلى عينه فوجدته غير مكترث لما أقوله، بل يتألم لسبب آخر، توقفت عما أقوله وسألته: هل تفتقد صديقك؟ فأجابني: نعم، وبكى، توقفت عن الكلام، وجلست أربت على كتفه وأخبره أنني أقدر مشاعره ومن حقه الحزن، ففقدان مَن نحبهم مؤلم.
وكم فقدت أنا يا صغيري من أصدقاء، ولكن تبقى الذكريات الجميلة تؤنسني، أخذني موقف فقدانه لصديقه للتأمل في كل تلك الجمل المغلفة بالدعم والحب البراق التي ذكرتها في أول المقال.
تألمت لألم ابني وهو يعاني مشاعر فقد، تألمت لألم قلبه الصغير، وددت لو أمنع عنه هذا بأي طريقة كانت، لكني تمالكت نفسي عن محاولة إلهائه أو إبهاجه، فقط تركته يحزن ليتعلم الفقد، ليتدرب عليه ويقبله؛ لأنني في واقع الأمر عاجزة تمام العجز عن أن أُعيد إليه صديقه، ولا سبيل لذلك، ولم تكن تنفعه كلماتي إن قُلتها بأنني سوف أحميه أو لن يصيبه مكروه أو طالما أنا هنا.
لأنه من الممكن أن يصيبه فقد وإخفاق وإحباط وحزن وألم، وأنا لن أستطيع أن أمنع عنه كل ذلك، تلك هي سُنة الحياة ونواميس الكون، وعلينا قبولها كي نستطيع المضي قدماً في الحياة.
نحن نستهلك أوقاتاً كثيرة من أعمارنا في مخالفة النواميس الكونية للدنيا، في الهروب من الفقد الآتي لا محالة بتشبثنا المبالغ فيه بأشياء، وبتوقعنا غير المنطقي بالوجود الدائم لمن نحبهم، فنصاب بأمراض عديدة، وتوقف حياتنا بصدمات أو اكتئابات متتالية، وربما ضاع عمرنا فقط في محاولة قبول أننا فقدنا ما فقدناه.
ما الذي يصل لسامع تلك الجمل البراقة غير أن قائلها يقول بمعنى آخر: إن متّ أنا أو إن غبتُ لأي سبب فحياتك انتهت، فما معنى أنني لك الأمان طالما كنت حياً؟
جميل ذلك الشعور، ولكننا لن نحيا للأبد، وليست الأبدية لنا هنا، فلماذا نعد الآخرين بما ليس بيدنا، ثم إذا تركناهم، وحتماً سنفعل تركناهم وقد حكمنا بموتهم معنا؛ لأننا شرطنا عليهم الوجود ببقائنا معهم، لماذا نصعب الفراق علينا وعلى من نحب؟
تأمُّلي للجملة جعلني أراها أشبه بقيد كبير وحبل ملتفّ حول عنق من نحبه أو نظن كذلك، تحمل كماً لا بأس به من أنانية مغلفة بمشاعر براقة.
الأولى بنا كفانين أن نعين بعضنا على فقد بعض، أن نجعل في كل علاقاتنا، خصوصاً بأحبتنا، حرية لهم ليتحركوا في الدنيا بمفردهم، نعلمهم كيف يعيشون من دوننا، نوصل لهم أن البشر مهما كانت درجة قربهم وحبهم وصلتهم ليسوا أماناً، وأن الأمان فقط يأتينا بوجود الله الحي الذي لا يموت.
حتى إذا فقدنا أحبَّتنا أو فقدونا، أو فقدنا ما نملك من أشياء عزيزة، نستطيع أن نحيا ونستمر ونُكمل مسيرة الحياة في داخلنا، لا نموت بفقدهم ونحن أحياء نُرزَق؛ لهذا ساعدني كي أقبل فَقْدَك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.