نحن على أعتاب ثورة جديدة في مجال الرعاية الصحية، لقد انتظرنا هذه الثورة عشرات السنين، وها نحن قد بدأنا للتوّ تحقيق أحلام الماضي بأقل الأسعار، وأسهل السبل.
لقد ظل الطب لقرون عديدة يعتمد على نفس الطرق لتشخيص وعلاج المرضى دون تمييز بين الكبير والصغير، الرجل والمرأة، النحيف والسمين، أما الآن فيمكننا التفريق بين البشر باستخدام البصمة الجينية لكل شخص.
كما نعرف لا يمكن أن يتشارك شخصان في نفس تتابُع الحمض النووي في العالم؛ لذلك يجب على الرعاية الصحية أن تختلف من شخص لشخص حسب الجينوم الخاص به.
وهنا ينشأ ما يسمى بالطب الشخصي، أي أننا نمارس الطب المناسب لك، الذي لا يكون بالضرورة مناسباً لغيرك، فالدواء الذي يأتي بمفعول كبير معك قد لا يكون مؤثراً على الإطلاق في جسم شخص آخر، وهذا يرجع كما أسلفنا إلى اختلاف الجينوم بين كل الأفراد على سطح الأرض.
كيف بدأت القصة؟
في عام 2003 تمكن فريق ضخم من العلماء في شتى بقاع الأرض بقيادة د. فرانسيس كولنز من تحليل تتابع أول جينوم بشري باستخدام طريقة سانجر.
كان هذا الإنجاز مدوّياً في الأوساط العلمية فلأول مرة في التاريخ يتمكن البشر من معرفة تتابع حمضهم النووي من أول نيكليوتيدة لآخر واحدة.
كان هذا المشروع العلمي عملاقاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى فقد كلفنا هذا المشروع ثلاثة مليارات دولار ومجهود آلاف العلماء في مختلف بلاد العالم وسنين طويلة من البحث والمعاناة، حتى نتمكن فقط من فكّ شيفرة أول جينوم بشري، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.
لقد أمدنا مشروع الجينوم البشري بكميات هائلة من البيانات التي بدورها أمدتنا بكميات كبيرة من المعلومات الناتجة من معالجة هذه البيانات، ولكن كيف يمكننا معالجة هذه الكمية الكبيرة من البيانات باستخدام العقل البشري؟
لقد أصبحنا مضطرين لاستخدام الكمبيوتر لمعالجة هذا الكمّ الفائق من البيانات؛ لينشأ بذلك علم جديد هو علم الجينوم البشري.
لا بد أنك تتساءل الآن: ما الفرق بين علوم الجينوم وعلم الوراثة التقليدي؟
علم الوراثة بشكله التقليدي بدأه مندل منذ أكثر من قرن، وهو يتعامل مع جين معين نقوم بدراسة وظيفته، وما الآثار الناتجة عن حدوث طفرة فيه، وما هي الأمراض التي قد تنتج من تلف هذا الجين، أما علوم الجينوم فتقوم بدراسة الجينات الكاملة لكائن حي والتي تمثل فقط 2 في المائة من الجينوم، وأيضاً المواضع التي لا تمثل جينات وهي تشكل 98 في المائة من الجينوم، فعلم الجينوم يعتبر نظرة عامة على التكوين الوراثي للكائن الحي يمكننا من معرفة الكثير من خصائصه.
حلم الجينوم ذي المائة دولار: لقد أوضحنا تكلفة مشروع الجينوم البشري التي بلغت ثلاثة مليارات دولار، ولكن الوضع اختلف كثيراً عن السابق، فالتكلفة ظلت تهبط حتى وصلت الآن إلى ألف دولار فقط.
نعم من ثلاثة مليارات دولار إلى ألف دولار في حوالي عشر سنوات، يرجع هذا لتقدم التقنية وابتكار أجهزة جديدة قادرة على تحليل الحمض النووي كاملاً في ساعات معدودة ومجهود قليل جداً، مقارنة بالمجهود والتكلفة الكبيرة في الماضي.
لم يتوقف الأمر عند هذه النقطة، فالعلماء الآن يبحثون سبل تطوير هذه التقنية حتى ينخفض سعر تحليل الجينوم البشري إلى مائة دولار فقط، هنا يمكننا إجراء هذا التحليل لكل طفل صغير يولد، لن تكون هذه التكلفة كبيرة مقارنة بالفوائد التي ستعود علينا.
كيف يمكننا الاستفادة من تحليل الجينوم البشري في الرعاية الصحية؟ يمكننا معرفة كل شيء تقريباً عن الكائن الحي من خلال تحليل الجينوم الخاص به، فيمكنني معرفة الأمراض التي قد تصيبك مستقبلاً فتتبع سبل الوقاية المناسبة وأيضاً تجري الفحوصات اللازمة للتأكد إذا ما كان المرض قد أصابك في سن معينة أم لا.
يمكننا أيضاً معرفة الأمراض الوراثية التي قد تصيب أولادك فنمنع حدوثها أو نكتشفها مبكراً ونتعامل معها.
كما يمكننا تحديد نوع العلاج المناسب لك وسرعته، فكثير من الأدوية يختلف تأثيرها من شخص لآخر فأنت تحتاج جرعة صغيرة لإحداث التأثير المطلوب، بينما يحتاج غيرك جرعة كبيرة نسبياً وقد يسبب دواء معين عرضاً جانبياً خطيراً لدرجة الموت في شخص بينما لا يسببه في شخص آخر.
أيضاً عند انتشار وباء لمرض معدٍ معين يمكننا تقصي المصدر باستخدام تحليل الجينوم بسهولة، وتتميز هذه الطريقة بدقتها الكبيرة عن الطرق المتبعة الأخرى.
أيضاً يمكننا استخدام تحليل الجينوم في الأورام الخبيثة؛ كي نتمكن من تحديد نوع الورم بدقة والطفرة التي سببته والعلاج المناسب بفاعلية كبيرة.
أيضاً بعض الأمراض النادرة التي يستعصي على الأطباء تشخيصها وعلاجها يمكننا اكتشاف السبب في حدوثها في كثير من الأحوال.
لا شك أن جميع الدول المتقدمة تتسابق الآن في هذا المجال فمثلاً إنكلترا خصصت مشروعاً كاملاً لتحليل الجينوم لمائة ألف شخص، والحصول على معلومات كبيرة ستفيد في مجال الأبحاث ومجال الرعاية الصحية، كما أن المشروع يعد استثماراً اقتصادياً كبيراً، فالمعلومات يمكن بيعها لشركات الأدوية المختلفة التي ستتسابق في الحصول على هذه المعلومات، مقابل دفع مبالغ طائلة للحكومة البريطانية.
الآن نحن على أعتاب الثورة العلمية وما زلنا في مهدها، فإذا أردنا اللحاق ومواكبة العصر، ولو في مجال واحد فهذا هو الوقت المناسب للانطلاق.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.