أبي وأنا

من المفترض أن يسمح استقلال الأبناء عن الآباء في سن مبكرة بنوع من الاستقلال المادي والمعنوي، لكنّ كثيراً من الأدبيات تثير ما يحمله شخوصها من صور وآثار عن الآباء، بالرغم من الاستقلال عن الأسرة، وهذه الصور ملتبسة في كثير من الأحيان، تحمل الكثير من القلق والشعور بالذنب تتنازعها العاطفة من طرف وما تحمله من الآثار النفسية من الطرف الآخر.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/03 الساعة 02:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/03 الساعة 02:44 بتوقيت غرينتش

من المفترض أن يسمح استقلال الأبناء عن الآباء في سن مبكرة بنوع من الاستقلال المادي والمعنوي، لكنّ كثيراً من الأدبيات تثير ما يحمله شخوصها من صور وآثار عن الآباء، بالرغم من الاستقلال عن الأسرة، وهذه الصور ملتبسة في كثير من الأحيان، تحمل الكثير من القلق والشعور بالذنب تتنازعها العاطفة من طرف وما تحمله من الآثار النفسية من الطرف الآخر.

قد توجد مثل هذه الحالة في حالة العيش المشترك، لكن ما الدافع في حالة الاستقلال الذاتي؟

في الطب النفسي، هناك المشكلات النفسية المرتبطة بمرحلة الطفولة نتيجة أفعال وظروف أسرية اتخذت لاحقاً عدة أشكال على المستوى النفسي.

أذكر صديقة تبلغ من العمر أكثر من الأربعين وسلكت طريقها في الاستقلال عن الأسرة في سن مبكرة، وبالرغم من ذلك احتفظت بنفس القدر بل أكثر من عدم التقدير للنفس، بل ترسخ اعتقادها بأنها شخص لا يستحق الحب!

ارتبطت الكثير من المشكلات النفسية بمشكلات التربية، ولكن هل حقق الاستقلال عن الأسرة المنشود بكسر قيود التسلط المادي والمعنوي؟ أم دفع للخضوع لنوع آخر من التسلط المادي الرأسمالي وأغلق دائرة الفردية؟ هل تم كسر القيد النفسي أم توجهت نفس الأعداد لعيادات الطب النفسي أو ربما أكثر؟ لا أفترض هنا قدسية الأسرة، أحمل من الآثار ما يحمله غيري، فقط أعيد النظر في البدائل.

في تجربة خاصة انتقلت فيها للعيش في مدينة أخرى بعيداً عن العائلة، أذكر ذلك القدر الهائل من الحرية والدوائر المتسعة من الصداقات الجديدة، احتفظت بالبعض منها على مقربة، لكن ظلت هناك مساحة من الفراغ تتسع.

في البداية لم أشعر بها، في الحقيقة لم تؤلمني -وإن ظلت فارغة- بل حملت نوعاً من الاستقرار النفسي الذي طالما سعيت له، ولكن ها هي تعلن عن نفسها بقوة، الحاجة إلى الانتماء، إلى كيان عاطفي كالذي تمثله الأسرة.

أعلم أنه يتمنى أحدهم هذا حتى إذا ما تحقق، هرع يبحث عن الحرية، أو إذا تحققت له الرابطة، أساء إليها وإلى نفسه وكل ما ضمته داخلها تحت وطأة وتيرة متسارعة لما هو يومي ومتجدد.

أذكر أن أبي وأمي كانا في حاجة للمزيد من الوقت.

في بداية حياتهما كان الهاجس الأكبر تأمين الحد الكافي للعيش لخمسة أطفال بدخل الأب وبعض المساعدات من الأم.

الهاجس المادي أي توفير أساسيات العيش فرض نفسه بقوة وأخذ جل اهتمامهما، اهتمّا ببناتهما كما اهتم آباؤهما بهما، من وجهة نظرهما هما قدّما ما في استطاعتهما.

من وجهة نظري، كلما ازداد الضغط المعيشي ارتفع صوت أبي، وازداد خوفنا من غضبه، أرى ذلك في الكثير من الظلال النفسية على المستوى الشخصي، كاتخاذ القرارات وفقاً لإرادة أبي ومراعاةً لهموم أمي، كلما تمردت أو هكذا خُيل لي، أجد ما يقلقني هو قلقهم المتزايد. أحمله داخلي، أراوغه كثيراً، لكن كثيراً ما يشكل ردة فعلي!

في سنواتي المبكرة، كنت أبحث عن إجابة لأسئلتي بطريقة شخصية تماماً، أذكر أن أبي قام بشراء حذاء مكشوف ذهبي لأختي التي تصغرني بثلاث سنوات، أذكر وقتها أني شعرت بالغيرة، كنت أبكي، أبي عنفني لذلك.

على المستوى النفسي كنت قد طورت أسلوباً مختلفاً، وهو أن أستبدل هذا الشعور بشعور بالحب بدلاً من الغيرة!

حتى اليوم أفعل ذلك تجاه أي شعور بالغيرة أدفعه باتجاه الحب! أذكر أنني كثيراً ما تمنيت لو أن أحدهم حمل عنّي، لكن ما لم أعرفه وقتها أن تجربة الوجود، أي أن يتم دفعك في الحياة هي مسار نفسي تقطعه غالباً وحدك وتحمل جلّ قلقه وحدك.

مع مرور الأعوام، أجد أن كثيراً مما ترسب داخلي هو ردود فعل لكثير مما تعرضت له.

وهنا قد يكون محل التغيير أن تضع لأحدهم كتفاً يستند عليها، أذكر أنني في أعوامي الأولى كنت دائماً أحمل شعوراً بأن أحدهم تخلّى عني!

في النهاية، مرت الأعوام وصرت أنا الشخص المنوط به طمأنة الكبير ومد يد العون للصغير وإفساح المجال له حتى يجد موطئ لقدمه! أذكر أنني كنت كثيرًا ما أجد صعوبة في وضع قدمي بجوار الآخرين، كنت أتراجع للمؤخرة!

في "النسور الصغيرة" وهو فيلم وثائقي يعرض فيه محمد رشاد وهو الراوي والمخرج جزءاً من علاقته بوالده الذي أراد لابنه تعليماً ووظيفة "حقيقية" لا أن يعمل بالإخراج والذي يبدو شيئاً غير مفهوم من وجهة نظره.

في المقابل، حمل الابن تساؤلاً قام بتوجيهه للأب: "لماذا ارتضى الأب بمهنة بسيطة ككيّ الثياب طيلة حياته؟"، "لماذا لم يفكر في الرحيل كغيره للعمل بإحدى الدول العربية؟".

كانت إجابة الأب بسيطة: أحب مهنته وقنع بالعمل لساعات طويلة، لكن تسمح له بالعودة لأبنائه في نهاية اليوم.

حمل كل منهما (الأب والابن) شعوراً بعدم الرضا تجاه الآخر، وللمفارقة أن من أسباب ذلك أن كلاً منهما اختار أن يفعل ما يحب! لا أعلم إن كان محمد رشاد شعر بما شعرت به، لكن الصورة نقلت إليَّ كثيراً من التوتر والقلق بينهما وبالتأكيد العاطفة.

قد تكون تجربة الفيلم في أحد جوانبها محاولة للتصالح وإن كانت غير مقصودة من جانب محمد، لكن حين سُئل بعد الفيلم عن إمكانية التصالح من جهة الأب علّق بأن والده لن يرى الفيلم حتى!

ما أود قوله في النهاية: ليس من السهل إدارة أي علاقة أو التعامل معها، فما بالنا بعلاقة كالتي تجمع الآباء بالأبناء، ما أود طرحه هنا هو ضرورة الاهتمام بالوعي النفسي للآباء بالأبناء، بلا مزيد من التسلط والتشنج والوسوسة فيما يخصهم، لكن بالدعم النفسي والعاطفي وطرح بدائل خلقية وقيمية في مساحة من حرية الاختيار ومن ثم الوقوع في الخطأ.

ما أراه أن الأسرة تحفظ نوعاً من التوازن الإنساني لكن تحتاج التقويم والعمل الدائم دون إخلال بالتطور النفسي والشخصي لأفرادها الصغار.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد