بعد تمام الانقلاب العسكري في مصر، ومنذ 3 من يوليو/تموز 2013م وتعدد طرق المعاناة على المخلصين من أبناء الشعب المصري، بخاصة التيار الإسلامي وفي الصدارة منه جماعة الإخوان المسلمين، وبعد انهيار الأحلام والأماني التي حرص قادة الجماعة على مداعبة أحلام ومُخيلة الصف بها وازدياد الوضع مأساوية باضمحلال القدرة على رؤية حل واقعي له، وخيبة الآمال الجماعية حتى في الحلم ببريق أمل ولو خافت مستقبلاً.. أصبحت آليات "تصبير الصف" على مصائبه مختلفة، وأحياناً عجيبة تبعث على الحيرة والدهشة.
فالقيادات التي سبق أن أمعنت في القول بأن الانقلاب يترنح، وإن "السيسي" قائده الخائن المنقلب قُتِلَ أو في طريقه إلى القتل، وأحياناً يُقال: إن القصاص منه ومن أتباعه من العسكريين والمدنيين، خصوصاً رجال القضاة وقادة الشرطة والجيش وأيضاً الفكر والإعلام المناصرين للانقلاب قادم لا محالة، ولكم تمنينا حدوث الأمر فقط أن يتم عبر محاكمات عادلة، وألّا يكون مجرد أمانٍ فحسب دون إعداد أو تخطيط، وبالتالي قدرة.
وبمرور الأيام سقطت مُبشرات القادة، لما انعدم العمل ومجرد التخطيط، وأثبت الواقع أنهم إنما كانوا يتلاعبون بالصف.. بخاصة الآلاف من الأنقياء الشرفاء الذين رأوا في السادة المُمسكين بزمام الجماعة بعد أسر قادتها الحقيقيين معبر النجاة، فاستحق القادة الجدد بجدارة لقب "مُطيلي أمد المحنة إلى ما شاء الله".. وتفتقت أذهانهم بناءً عليه عن حلول عبقرية برعوا في مداراة سوء قيادتهم للمشهد بها.
رُوي عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- في صحيح "البخاري" أنها روت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ مات فقد أفضى إلى ما قدم"، وأفضى إلى ما قدم، أي: انتهى في الدنيا عمله وحسابه على خالقه، فلا يضيره من بعد وصف واصف بخاصة بالذم.
وجماعة "الإخوان" كان من أدبياتها عدم التعرض إلى متوفى أياً مَنْ كان وكان موقفها منه، وكان رائدها في ذلك موقف مرشدها الراحل "عمر التلمساني" لما وصل إلى مسامعه خبر وفاة الراحل "جمال عبد الناصر" وكان الأخير حبسه إلى أجل غير مسمى، فلما وصله خبر رحيله وقرب الإفراج عنه بالتالي، لم يزد "التلمساني"، رحمه الله، عن أن قال: رحمه الله!
والمُتطلع إلى مسيرة الحياة والإنسانية الراقيتين يعرف أنه في مجال الخصومة الدنيوية المبنية على موقف لا قتال أو حرب حقيقية، فإنه لا مجال للتعامل مع متوفى راحل عن الوجود إلا بالترحم عليه، أو على الأقل كفّ اللسان، مع وجوب مناقشة أفكاره وبيان خطئها، بخاصة إذا خالفت الشرع الحنيف، مناقشة علمية موضوعية بعيداً عن التعرض لشخصه والقدح والذم فيه.
والأحاديث في التورع عن ذم شخص مسلم مُتوفى ناطق بالشهادتين كثيرة لا مجال لحصرها هنا، عوضاً عن الإنسانية القويمة السوية التي هي أصل من أصول الإسلام، وهي ترفض التعرض إلى ميت لا يستطيع الرد المجرد فضلاً عن الانتصار لنفسه.
بعد طول أمد مأساة الانقلاب، ويأس نفوس الآلاف من الإسلاميين من اندحاره أو حتى تذبذبه عن محله، ومع عدم وجود رؤية، من الأساس لمواجهته، أو حتى أمل في استراتيجية تساوي عودة مئات الآلاف إلى ديارهم، على نحو يحفظ عليهم حياتهم، فضلاً عن إخراج مئات الآلاف من السجون، ومنع الفقر عن عائلات المطاردين والشهداء والمصابين، فبعد طول فترة المأساة استمرت سخرية أفراد الجماعة، اللهم إلا مَنْ رحم ربي، من قائد الانقلاب وأفعاله، فيما تسوقهم المخابرات في أحيان كثيرة إلى ذلك سوقاً، وأيضاً استمر الصف في إبداء الشماتة في المُتوفين من مناصري الانقلاب.. والأخيرين لا تمر أشهر قليلة جداً إن لم يكن أسابيع.. إلا ويتوفى الله أحدهم.
وإن رحتَ تتطلع عن غرض من الشماتة أو حتى مجرد الفرح في وفاة أحد الذين عادَوا التيار الإسلامي بالقول أو حتى الفعل لم تجد، فهؤلاء الراحلون عاشوا حياتهم يناصبون الإسلاميين العداء، وبعضهم عادى حتى الشرع الحنيف، لكن الإخوان أيام ترشحهم لمجلس الشعب، والمشاركة في الحياة السياسية والوجود في مصر، وحتى سنة حكمهم.. كانوا يحرصون على التوازن مع كثيرين من هؤلاء الراحلين بعد الانقلاب.. بل وودهم بما يعلو فوق الود وإبداء الحب لأتباعهم من الصف أو حتى من التيار الإسلامي.. على طريقة أحد كبار الأمويين الباقين بعد زوال ملكهم.. لما سأله أحد الخلفاء العباسيين عن سبب سقوطهم، مع ما كانوا يمتلكونه من عناصر البقاء، فقال الرجل:
– قربنا العدو وأوكلنا الصديق إلى صديقته فانقلب العدو صديقاً ولم يبقَ الصديق على صداقته!
وهكذا فإنه، مع الفارق، انقلب الأعداء الذين أولهم قادة الإخوان محبتهم ومودتهم، فانقلب الأخيرون أشد شراسة، وزالت محبة الأصدقاء فصاروا أعداء هم الآخرين، وعوضاً عن فهم الدرس صار الإخوان الذين لم يحسنوا الأخذ بمجامع القلوب ولا حتى التعامل معها، صار بعض قادة الإخوان هذه الأيام يحضون أعوانهم وأتباعهم على الشماتة والفرح في وفاة أعدائهم، وهم الذين كانوا يحرصون على رضاهم قبل الانقلاب.
ولما تسأل عن سبب لإظهار الشماتة في ميت لا يملك الدفاع عن نفسه يستشهد بعض علماء الجماعة بآيات هلاك "فرعون موسى"، مع إن الأخير كافر لم يعرف الإسلام إلى قلبه سبيلاً، وهلم جراً.. أما عن الفرحة المدعاة بهلاك الظالم، ولا يدافع صاحب هذه الكلمات عن حيّ عادى الدين ومخلصي أهله ما دام حياً ولكنه يعترف أن الإسلام يُقر برفع اللسان عنه طالما مات.. إجلالاً للحظة سيلقى الله فيها.. مثله، ورغبة في ادخار الخير في حياة هذا الوجود.
بعض القادة يحدثوننا، وكانوا من قبل دعاة إنسانية قبل دين، عن أن الميت المُعادي تجوز الفرحة في مماته، ونسي السادة أن الراحل الذي يتحدثون عنه مسلم مثلهم مثله، وإنهم لا يستطيعون فك حجب الغيب لمعرفة حاله قبل الوفاة فقد يكون تاب إلى الله وأناب فصار أفضل منهم لديه تعالى.. ومن يدري فإن الرسول العظيم ليقول: "إن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه عمل أهل الجنة فيدخلها"، رواه البخاري، أي: أن المسلم قد يحمل إخلاصاً خفياً يجعله من أهل الجنة في آخر لحظات حياته، قبل معرفة أنه مقبل على الوفاة، ولا أريد تذكير السادة القادة القائلين بتحديد مصائر الناس وكأنهم شركاء مع خالقهم والعياذ بالله.. إن من الناس مَنْ يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار!
إن النار والجنة عملان من أعمال السيادة الإلهية فليتورع عنهما السادة ممن لم يحسنوا سياسة الدنيا فيريدون سياسة الآخرة وليتذكروا الحديث الذي رواه "مسلم":
"أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله تعالى: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.