دائماً ما تدفعُنا أعرافُنا وغيرتُنا إلى الدفاع عن أعراضِنا وأموالنا وأهلينا وأوطاننا، وهذا ما يُسمى الغيرة والحميّة، هذا الأمر جزء متأصِّل في شخصية الإنسان العربي، ويظهر ذلك جلياً في تُراثهم الثقافي "أشعار المُعلقات" وتاريخ حروبهم القائمة على إثارة نوازع الاعتزاز بقيمتهِم القَبَليّة، ويُطلق عليه حديثاً الانتماء والوطنية.
ولكن، عندما يتعلق الأمر بالحميّة على الدّين وأصوله ومُقدساته، قد يندفع بعضُ المُتحزلقين الجُدد "مُدّعي التحرُر" بوصف المُدافعين عن تلك المُقدسات بمُسميات ما أنزل الله بها من سُلطان؛ بل قد يُصنّفون أصحابها بانتماءات سياسية كذباً لقضيّتهم الفاسِدة.
في المقال الأول "عقيدة البهلوان1″، ألقينا الضوء على المصاحِف المُلوّنة، فالبعض انتقدهُ واعتبرهُ تشويهاً لها، والبعض الآخر أيّدهُ واعتبرهُ أمراً يجب إعادة النظر فيه.
يتعلق الأمر بالتعامُل مع أصول الدين وأساسياته وتحويلها إلى رموز شكليّة خالية من أي شعائر حقيقية تمس الوجدان، ويظهر ذلك في كثير من المُمارسات الخاطئة للمُقدّسات الإسلامية.
في نهاية شارع المُعز، على اليمين من ناحية باب الفتوح، يقع مسجد كبير لهُ تاريخ يرجع إلى العزيز بالله الفاطمي، ولكنه نُسب إلى ابنه "الحاكم"؛ لأنه من أتمّ بناءه.. مسجد الحاكم بأمر الله لهُ ساحة كبيرة من الداخل وفي المنتصف "صحن" لهُ مظهر رائع، مُحاط بأربع وُجهات؛ منها وجهةٌ للباب والثلاث الأُخريات عبارة عن أبواب تدخل منها إلى مُصلى المسجد حيثُ المنبر والمحراب.
بعد مشوار طويل ومُرهِق وصلنا أخيراً إلى المسجد؛ في ساحة المسجد كان الأمر أجمل مما رسمتهُ في مُخيلتي، فساحة المسجد مفروشة بنوع غرانيت فخم يرجع أصوله إلى الدولة المؤسِّسة، إقبال شديد من الناس على المسجد كان هذا أمراً رائعاً جداً بالنسبة إليّ، ولكن هُناك شيء ما كان يُفسد روعته ويجعلني أتساءل: هل هُم مصلّون بالفعل أم أنهم مُجرد عابرين دخلوا ليلتقطوا بعض الصور ويرحلوا؟
وقفنا لالتقاط بعض الصور ولم نكُن بمفردنا، فقد وجدنا زواراً كُثراً يلتقطون الصور التذكارية، والأطفال يلعبون في ساحة المسجد، والعُشاق أيضاً يترنّحون مشتبكي الأيدي في الساحة، ورؤوسهم لأعلى مُعلنين لنا أنهم يتأملون في هذا التاريخ العريق، ما رسخ في ذهني أنه في هذه الساحة مسموح بغير التقاليد ورُبما مفصولة عن المُصلاة؛ لذا يدخُلها المُسلم وغيره.. الأمر في ساحة المسجد لا يختلف شيئاً عن خارجه.
التقطنا الصور ودخلنا مُسرعين لساحة الصلاة، حيث يجلس باقي المجموعة؛ على اليمين واليسار أشياء غريبة، أسفل أعمدة المسجد شيء لم أتخيله من قبلُ؛ بل وكُنت أُكذبه عندما أسمعه.. الآن أنا أرى بعينيّ.. يا إلهي! ما هذا الذي يحدُث داخل المسجد؟! بل وفي مُصلاة أسفل أعمدته؟! يجلس في كل زاوية من زوايا المسجد وأسفل كُل عمود شاب وفتاة يتبادلون الحديث وتصدر من هنا أصوات ومن هُنا ضحكات! ما هذا؟! وقفتُ وهلةً لم أتوقع قط ما رأيت.
كدت أعود إلى الخارج وأحاول الدخول مرة أخرى علهُ باب سحري أدخلني إلى مكان مُخصص للعُشّاق، كُنت سأعود من هذا الباب السحري لأبدي لهم اعتذاري لأني كُنت قاصداً المسجد لا مكان خلوتهم والدخول من دون استئذان.
وقفت أحدّق في الشاب والفتاة ولم يتحرك لهما ساكن، الشاب يميل على كتفها والفتاة لم تكُفَّ عن القهقهات، أصبح الأمر أكثر غرابة، شيء ما يحدُث، شعُرت بأني أنا الغريب وأنا من يقطع خلوة العُشّاق دون استئذان.. نعم، كان يجب أن أستسمحهم ليأذنوا لي في الدخول، تخيلت أني بالفعل أخطأت المسجد، ولكن كذّبني جلوس أصدقائي وبجوارهم المنبر.
كان الأمر كصاعقةٍ أُلقيت على صدري.. لا أستطيع التنفُّس.. لا يوجد هواء نقي داخل المسجد. جلسنا ننتظر صلاة المغرب، كُنت أتمنى أن يدخل وقت الصلاة ولا يُنادى لها.. نعم، لا أُريد أن أفيق، أُريد أن يأتي خبرٌ يحمله رجُلٌ من أقصى المدينة يسعى: يا قوم، هذا ليس مسجداً؛ لقد تحوّل إلى مبنى أثري منذ عقود.
قبل الأذان، علت النداءات: "على النساء الخروج وإفراغ المُصلاة لأداء صلاة المغرب"؛ بالفعل توجد نيّة أن هُناك صلاة ستُقام ها هُنا. أتممنا الصلاة وأنا في حالة لا أعرف ما هي، ولكنّها حالة من الاستغراب مُزجت بقليل من الخيال مع بعض حبّات الضجر فتشكلت في ملامحي.
جاءت البُشرى مُسرعةً إلينا على هيئة شُرطيٍّ هُناك من باب المسجد؛ كأنهُ شعُر بي وأتاني ليُخلصَني من خيباتي التي لازمتني مُذ دخلت. توجّه إلينا الشُرطي كأنه دخل خصيصاً ليُحدثنا. قال: يا شباب لا أريد تجمُّعات!
كانت بمثابة صاعقة أخرى صعقتني بلا رأفة، قد دمّر شُعاع الأمل الذي لامسني عندما رأيتُه، قد أتى -شاكراً- لينهانا ألا نتجمّع؛ ظناً منهُ أننا نُشكل خطراً على الجالسين. على مَن؟! على العُشّاق داخل المسجد.. منْ فضلك.. اترك لي المسجِد! فلتذهب أنتَ وعاداتك إلى الأماكِن المُخصصة لها، إلى حيث يتجمع أمثالك.
دعني أقُل لكَ شيئاً.. إن كُنتَ تعتقد أنهُ لا فرق بين المسجِد ومكان تجمُّع العُشّاق أو خُيّل لك أنك ستمُر على أذهان من رأوك عابراً دون أن تترك لهم ألماً يُلازمهم من فِعلتك بالمسجد- فتقديرك خاطئ. الألم الحقيقي هو أن تسيء إليهم وأنت لا تدري، أن تسيء إلى رمز من رموز الدّين، كلا؛ بل وبين بيوت الله، ربي وربُك وربُ العالمين.. من فضلك، لا تُعاملهُ كما تُعامِل المقاهي، من فضلك ارتقِ قليلاً وأنت في حرمه، من فضلك لا تسِئ إليه بتقاليدك الفاسدة.
لِم نتعامل مع شعائِرنا ومُقدّساتنا هكذا؟! هل هي حصيلة ما فعلهُ الغرب بنا؟ أم أنها ثمار حرب عقائدية خاضتها الحملات الصليبية قديماً فظهرت علينا؟ هل نحنُ فاقدو الوعي فلا نُدرك خطورة ما نفعل؟ أم أن هذا هو الطبيعي وأن المُسلم يجب أن يتعايش مع واقعه السيئ ولا يكترث؟ أم أن قُلوبنا أصابها ضُمور فباتت لا تشعُر حتى بأقل الأشياء تجاه دينها، فلا تُعظّم ولا حتى تلتفت.. "ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.