لا يقل حال كثير من المتواصلين العرب على شبكات التواصل الاجتماعي بؤساً عن حال بلدانهم على أرض الواقع.
هذا الأمر يبدو متوقعاً؛ لأن مواقع التواصل ليست سوى مرآة تعكس حالة المجتمعات وحركتها وتحولاتها، وتعكس العلاقة بين أفرادها فيما بينهم، والعلاقة بين المجتمعات والبلدان الشقيقة الأخرى.
المراقب والمتتبع للردود والتعليقات والنقاشات التي تدور بين "الفيسبوكيين" العرب، وخصوصاً على صفحات المواقع الإخبارية وصفحات القنوات الفضائية يراها تكتظ وتحتشد بكم هائل من وصلات القدح والردح والتخوين والتشكيك والاتهام والتحقير والتشهير، في مشهد بائس يعكس حالة التردي والانحدار التي وصلت إليها الحالة الأخلاقية لدى فئة ليست بالقليلة في هذه المجتمعات.
قد يقول قائل: إن هذه الحالة عامة وموجودة لدى أغلب الشعوب والمجتمعات ومن الظلم تخصيصها بـ"الفيسبوكي" و"التويتري" العربي، ولا يجوز لنا أن نلصق التهم بأنفسنا ونجلد ذواتنا بهذه القسوة.
ليس الهدف جلد الذات بقدر ما هو توصيف لظاهرة نمتاز بها أكثر من غيرنا، وهذا ليس من باب التجني، ولكنه واقع يلمسه معظم من ينخرط في مواقع التواصل لدرجة أن التواجد في هذه المواقع التواصلية أصبح أمراً منفراً ومرهقاً ذهنياً ونفسياً حتى إن البعض قرر هجر هذه المواقع إلى غير رجعة.
لو خصصنا الحديث عن موقع الفيسبوك كمثال فيكفي أن تختار صفحتين لوسيلتي إعلام، إحداهما غربية وأخرى عربية؛ لترى الفرق في مستوى الحوار والنقاش والردود، جرّب أن تخوض هذه التجربة لترى الحقيقة ولترى نوعية الحوار ومستواه!
الأسباب كثيرة لهذه الحالة، فنحن في الأعم الأغلب شعوب ترعرعت على القمع والكبت وعدم احترام الرأي الآخر في جميع المجالات وعلى كافة المستويات، وخصوصاً السياسي منها.
ثقافة الحوار معدومة لدينا؛ لأننا نشأنا في مجتمعات تمارس القمع عبر جميع مراحل الحياة من العائلة والمدرسة إلى الجامعة وبيئة العمل ووصولاً إلى الشأن العام بكافة جوانبه السياسية والثقافية والاجتماعية.
فمن الطبيعي أن يفتقد الكثيرون منا لأدنى متطلبات الحوار الصحيّ؛ لأننا لم نكتسب هذه المتطلبات من بيئتنا التي عشنا فيها، وهذا على النقيض من المجتمعات الأخرى، وخصوصاً الغربية التي تربَّت على ثقافة الحوار واحترام الأفكار منذ الطفولة.
رأينا في الغالب "نفرضه" ولا "نعرضه" ونستهجن ونحتد إذا قرر الآخر أن يعارضه أو "يرفضه".
كما قلنا فإن هذه الحالة قد تبدو عامة ولكننا بالمجمل شعوب تبالغ في كل شيء، يكفي مثلاً أن نرى منافسة بين اثنين من بلدين عربيين في مسابقة غنائية أو شعرية؛ لتتحول هذه المنافسة إلى ما يشبه ساحة حرب بين البلدين، وهذا الوضع ينعكس على طريقتنا في التعبير، التي تستخدم فيها كافة الأسلحة اللغوية المشروعة وغير المشروعة، ويصبح فيها ضجيج أصواتنا طاغياً على كل ما سواه، حتى إن وجهة نظرنا ورأينا وأفكارنا تختفي وتخفت في ثنايا هذا الضجيج المقيت.
لو دققنا النظر وتتبعنا الحوارات العربية على مواقع التواصل، وخصوصاً الفيسبوك فسوف نرى الفيسبوكي العربي يمتاز بسمات نقاشية عامة قد تكون موجودة لدى الثقافات والشعوب الأخرى، ولكنها قطعاً ليست بالحدة والمبالغة الموجودة لدى الفيسبوكي العربي، هذه السمات هي التي تجعل الحوارات والنقاشات تنحدر إلى الدرك الأسفل وتسلك مسلكاً مؤسفاً لا تجد مثيله لدى الآخرين، أو على الأقل لا تجده بهذه الحدة والقوة:
1. التعميم الزائد:
تنشر إحدى الصفحات الإخبارية خبراً عن قيام أحد المواطنين في بلد عربي بفعل مستهجن وغير مألوف أو بجريمة ما؛ ليبدأ سيل من التعليقات التي تستهدف بلد هذا المواطن ومجتمعه الذي ينتمي إليه؛ لتصف هذا البلد كاملاً بأنه مرتع ومنبع لهذه الأفعال وتحمّل البلد كاملاً وزر فعل فردي قام به شخص واحد؛ حيث تستدرج هذه التعليقات ردوداً من أهل البلد المستهدف وليتحول معها النقاش إلى معركة ضارية لا تضع أوزارها إلا وقد تركت في النفوس كمية هائلة من الحقد والتباغض والتنافر.
بلدكم معروف بأنه بلد "السحر" وأنتم بلد "الراقصات" ومجتمعكم معروف بـ"انحلاله" وأنتم بلد "الكسالى"، والآخر مجتمع "التخلف".. إلخ.
التعميم الزائد نهج يسلكه كثير من المعلقين بهدف التحقير والتقليل من شأن الآخر، ولإثبات أن شعباً ما أفضل من شعب آخر في سجالات جاهلية عقيمة تعكس مدى التشرذم والخواء الأخلاقي الذي أصبح ظاهرة عامة ومنتشرة.
2. التخوين:
في الوطن العربي يصعُب أن يراك الآخرون محايداً أو واقفاً في المنتصف، فما دمت لا تحمل فكرهم فأنت عميل للخصوم، وأنت محسوب على أعداء الوطن، وأنت مأجور ومدفوع من جهة ما.
تنشر إحدى الصفحات خبراً عن قيام الحكومة أو الرئيس بإصدار قرار أو تبني موقف ما فتقوم بإبداء تحفظك أو تظهر انتقاداً موضوعياً لهذا الفعل على اعتبار أن الأخطاء واردة، وعلى اعتبار أن الكل يُؤخذ منه ويُرد؛ لتتفاجأ بجيش عرمرم من المعلقين الذي يكيلون لك التهم جزافاً: أنت عميل للدولة الفلانية، أنت محسوب على المخابرات العلانية، أنت مدفوع لك من جهة معينة، أنت لديك أجندة خارجية.. إلخ.
في الفضاء التواصلي العربي أصبح مجرد إبداء الرأي المهمة المستحيلة في ظل وجود طبقة معينة لا تعترف بنقد القائد الملهم والحكومة الرشيدة والنظام المقدس، فمجرد نقد موضوعي ومحايد سيواجه بتهم معلبة ومفرّزة وجاهزة؛ لأن البعض اختار أن يكون محامياً للشيطان في كل الظروف.
3. التقمص:
يحمل الكثيرون منا في داخلهم شخصية "المفتي" و"السياسي" و"المحلل الرياضي" و"عالم الاجتماع" و"الطبيب" و"الخبير الاقتصادي" و"الفيلسوف"، ما أن يُنشر خبر عن قضية شرعية حتى تبدأ "دائرة الإفتاء" الموجودة بداخلنا بممارسة دورها في الفتاوى وفي التحليل والتحريم على غير هدى أو علم، وما أن تعرض قضية سياسية على إحدى الصفحات فإذ بالمحللين السياسيين الذين نحملهم في داخلنا (من كل حدب ينسلون) لعرض تحليلاتهم وتعليقاتهم الفذة.
الفيسبوكي العربي يشعرك أنه ختم السياسة والاقتصاد، وهو ربما لم يقرأ في حياته كتاباً واحداً في هذا الشأن.
الفيسبوكي العربي سريع التحول فتارة يتقمص دور المحلل الرياضي، وتارة أخرى يلعب دور عالم النفس، ومرة يتحول بقدرة قادر إلى عالم فضاء وراصد جوي.
رحم الله فيسبوكياً لم يهرف بما لم يعرف. إبداء الرأي ليس فريضة شرعية ولا ضرورة حتمية يجب ممارستها في كل مجال، والقراءة دون تعليق كافية في معظم الأوقات؛ لأن الإصرار على التعليق يقود في معظم الأحيان إلى نقاشات وجدل بيزنطي ينتهي بحروب كلامية دامية.
4. الانفعال الزائد واللغة البذيئة:
في كثير من الأحيان تشعر أن الفيسبوكي العربي كائن انفعالي بطبعه، تراه سريع الغضب والتوتر حين يخالف أحدهم رأيه أو حين يقرأ تعليقاً لا يتماشى مع ما يؤمن به.
هذا التوتر والانفعال ينعكس لغة سوقية يخجل منها القاموس، ولا تراعي الذوق والحياء العام وكلما زادت حدة النقاش واتسعت الفجوة بين آراء المتحاورين، تمت الاستعانة بمفردات ولغة أكثر بذاءة وسوقية، وللأسف فإن مواقع التواصل الاجتماعي لا تحتاج لشهادة حسن سيرة وسلوك للانخراط فيه وليس فيها رقابة فعّالة تحد من هذه الظاهرة المؤسفة.
في النهاية.. لا يمكن إغفال دور الأقلام المُسيرة بالريموت كونترول والصفحات مسبقة الدفع والتي تعمل ضمن أجندة سياسية محسوبة على أجهزة معينة بهدف توجيه الرأي العام، ولكن هذه الحقيقة لا تلغي أننا وصلنا إلى مرحلة مؤسفة وبائسة ومتدنية في درجات أدب الحوار، مرحلة تشبه واقعنا المزري الذي تعيشه معظم شعوبنا العربية وعلى كافة الأصعدة.
أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي في وطننا العربي أداة لتدمير التواصل، وتحولت لوسيلة هدم وفرقة، وساهمت بشكل كبير في زيادة الفجوة بين الشعوب والأوطان، ولم تعد وسيلة محايدة بعد أن حرفها الكثيرون عن مسارها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.