أعتقد أن كثيراً من القرَّاء الكرام قد شاهدوا ولو مقطعاً من مقاطع المسلسل الكرتوني توم وجيري (القط والفأر) الذي تبثه الكثير من القنوات، والذي يستهوي الصغار والكبار على حدٍّ سواء، ويمكن فهمه بسهولة، حتى دون الحاجة إلى ترجمته للغة المُشاهد.
وكم شعرنا بالمتعة والتسلية والضحك أثناء مشاهدتنا لأحداث الصراع والعنف بين توم وجيري، وربما أحسسنا من أعماقنا بالتعاطف مع جيري (الفأر)، في صراعه مع توم (القط)؛ بل كم ضحكنا وسخرنا من (غباء وسذاجة وغفلة) توم، صاحب الجسم الكبير والإمكانات الكثيرة، في مقابل صغر حجم جيري ومحدودية إمكاناته، ولكن مع تمتّعه بالكثير من (الذكاء والمكر والخديعة)، فهو الذي ينتصر دائماً في النهاية.
إن النموذج الترويجي للصراع والعنف الذي يمثله هذا المسلسل الكرتوني، والذي يتطور باستمرار ليُواكب كل الأحداث المتوقعة في البر والبحر والجو، وكل أشكال وأنواع الصراع والعنف المحتملة التي يمكن أن تخطر -أو لا تخطر- على البال، إنه يمثل رمزية لصراع قائم على الواقع، تمثل فيه إسرائيل دور (جيري)، في حين يمثل العرب فيه دور (توم)، وفي سياق أكبر يمثل الغرب بقيادة أميركا دور (جيري)، وتمثل القوى المناهضة له وعلى رأسها العالم الإسلامي دور (توم).
ومسلسل توم وجيري ليس الوحيد الذي يروّج للصراع والعنف، فهناك المئات -إن لم تكن الآلاف- من مسلسلات وأفلام الأطفال التي تروج للصراع والعنف، كما أن هناك الكثير من ألعاب الفيديو (البلايستيشن) التي طابعها الصراع والقتال والعنف، إضافة إلى مئات المسلسلات وآلاف الأفلام القتالية والحربية (أفلام أكشن) وأفلام الرعب، التي تنتجها شركات إنتاج الأفلام الغربية بدرجة أولى. ثم نتساءل -متعجبين- عن كيفية حدوث كل هذا الصراع والعنف في العالم بشكل عام، وفي عالمنا العربي والإسلامي بشكل خاص.
إن المشاهد في العالم العربي والإسلامي تستهويه مثل هذه المسلسلات والأفلام والألعاب، خاصة في وجود حالة الفراغ والبطالة في صفوف الشباب، وقيام عشرات القنوات بعرض هذه المسلسلات والأفلام (مترجمة أو مدبلجة للعربية)، سواء للأطفال (سبيستون نموذجاً)، أو للكبار (قنوات MBC نموذجاً)، ومع طول مدة المشاهدة وتكرار مشاهد القتل والدماء والعنف والدمار في العالم الافتراضي (المسلسلات والأفلام)، تصبح مثل هذه المشاهد مستساغة ومبررة في الواقع، حيث لم تعد المناظر المرعبة التي تخلّفها الحروب والصراعات تستفز المشاعر وتؤنب الضمير، بل صار تداول المقاطع التي تحتوي على مناظر بشعة من القتل والتشويه والتمثيل بالأجساد (وقطع الرؤوس) من المقاطع التي يكثر عليها الطلب، ويزداد تداولها في شبكات التواصل الاجتماعي.
إن كثرة وتكرار مشاهدة أنواع الصراع والعنف تؤدي إلى تطبيع النفس الإنسانية -التي تأنف وترفض مشاهد العنف بطبيعتها الفطرية السوية- على اللامبالاة، وتبلّد الإحساس، وعدم تحرك المشاعر لمناظر القتل والدماء والعنف والدمار، وفي هذا تدمير للجانب الإنساني في البشر، وترويج لقانون الغاب، الذي قد يكون أرحم وأكثر إنسانية مما هو حاصل في عالم البشر.
ومما يزيد الأمر ألماً وحسرة، ما نراه من نوعية الألعاب التي تقدم لأطفالنا في (الأعياد والأعراس)، التي في غالبيتها تنزع إلى العنف، وتوحي بالصراع والقتال، فمن ألعاب المفرقعات الصغيرة والكبيرة، وأحياناً الذخيرة الحية، التي تقلق راحتنا في المناسبات، إلى الألعاب التي تمثل كل أنواع وأشكال الأسلحة المستخدمة في عالم الكبار المتوحش، مع ملاحظة أن تجارة ألعاب الأطفال التي توحي بالعنف والقتال في رواج وازدهار وازدياد، مع تشجيع من المجتمع، ووصف لمن يمارسها بالشجاعة والبطولة والرجولة.
وبناء على ما سبق فهل يمكن القول: إن التطرف المؤدي إلى نوع من الصراع والعنف جزء من التراث الجيني للإنسان، خاصة والوقائع على الأرض تشير إلى هذا، وأن إمساكنا بنصاب التوسط والاعتدال والسلمية دائماً ضعيف، وأن العالم يسير وفقاً للنظرية الروسية الشهيرة: ما لا تستطيع إنجازه بالعنف، تستطيع إنجازه بعنف أكبر.
وخلاصة ما سبق، يمكن التأكيد على أن حالة الصراع والعنف والتطرف فيها، تبدأ كحالة فكرية وشعورية، تتغذى على ما تشاهد وتسمع وتراقب، ثم تنتقل إلى الجانب السلوكي في الصراع والعنف، وأعتقد أن الحالة الفكرية هي الأساس، لأن الفكر هو دليل السلوك، ومصدر تسويغه، والبرهنة على مشروعيته، وحين تنتشر الفظائع لا يبقى شيء مقدساً أو محرماً، وهذا في الحقيقة هو أسوأ ما يحدثه الصراع والعنف من تخريب في البيئة الأخلاقية للمجتمع. وقد يشوه إدراك جيل جديد إذا طال أمده، كما قال د. بكار.
أخيراً، مع أننا ندرك إلى أين يقودنا الترويج للصراع والعنف، فإننا مع ذلك مصرون على أن نذهب -وبسرعة أيضاً- إلى حيث يقودنا هذا المصير المشؤوم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.