كذَلك المُسافِر الأَشْعثِ الأَغْبر، عربيّ المحيّا رثُّ الثياب، يعبرُ الصّحراء ويقصد الحاضرة، يَجُرُّ أَذيَالهُ تحت سَطْعَةِ الشّمسِ وضوء القَمر، يعبر الصحراء بخياله قبل جسده ويفكّر بشكل الحاضرة التي لا يَنْفكُّ عن سؤالِ من زارها عنها وعن شكلها، ينظرُ إلى زُرقة السماء فيُخَالِجُ نفسه بأنّ السماء التي أحاطتْ برأسهِ، أحاطت بمقصده أيضاً؛ ليُداعبَ بذلك صبرهُ على طولِ الطّريق وعنته.
ينسجُ من خيوط الشمس ولون الرمال آمالاً سرمدية، لا تموت حتى بموته، يقتات عليها كلّما أصابه اليأس والقنوط، أو ترددّ إلى نفسه الشك بصدق الطّريق.
تمرّ أيامه بين كثبان الرمالِ يوماً تلو يومٍ ليشتد به المرض فَتَخُورَ قواه وتَضعُفُ راحلته ويقل زاده، يحيا بالأمل عوضاً عن ذلك كلّه، بأن الطّريق آخره المقصود المنشود، ويردف اليوم يوم بعده، الصحراء هيَ الصحراء، والطّريق هو الطّريق، إلّا أن راحلته فارقته وزاده لم يبقَ منه حتى الفُتات، يقول لنفسه: فلتصبر لم يبقَ إلا القليل وتصلُ إلى مقصودك، يرى جلَّ أمله في اللافتات على الطريق، مصنوعة بشكل بدائيّ يدويّ، مكتوب عليها عبارة كتبت بلون أبيض على لون الخشب "الطريق من هنا"، مرفقة بإشاراتٍ على شكل سهم لتدل على اتجاه الطّريق، لم يبقَ من أمله إلّا تلك اللافتات وبعضُ إشاراتٍ أخرى كلّها تدلّه على ما خرَج من بيته إليه، تقول له اللافتات: يا هذا لا تضعف فالطريق من هنا، يا هذا لقد قطعت كلّ هذه المسافة فلا يحقّ لك الاستسلام الآن، يا أيّها المسافر أَعْلَمُ أنّك خسرت كل شيء لكن أملك هنا يكمن عندي في أنّك ما زلت بعد كلّ هذا تجد ما يدلّك على الطريق؛ لتنسج بذلك أملك الذي تعتاش عليه حتى وإن خسرت كل شيء غيره.
تمرّ بضعة أيامٍ بين هجير الشمس وزمهرير الليل القارس، لا يوجد من مقوّمات النجاة سوى الأمل، يستجلب عزيمته لإكمال المسير، خطواته الثقيلة وثيابه الرثة وصحته المتردية لم تمنع خياله من نسج أشكال الحاضرة المقصودة وإكمال المسير، بَيْدَ أنّ هذا هوَ يومه الأخير فقد اختفت اللافتات عن الطريق، الصحراء الآن تشبه بعضها، ضاع الطريق عن الطريق، حتى نجوم السماء خانت واختفت عن الطريق؛ لتتركه في غياهب الصحراء وتسلب منه آخر ما تبقى من الأمل، يكاد يجنّ حتى أصابه اليأس والقنوط ليقتات على آخر ما تبقى من فتات الأمل لديه، يشعر أنّ الطّريق خانه ولم يوفِ بما وعده، يلوم خياله على كل لحظةٍ استدرجه فيه إلى سراب الأمل، يعتصره الألم أن اللافتات خانت وسلبته أمله الذي كان يعيش به آخر لحظات عمره، وأنّها تركته قبل أن يصل بقليل؛ ليموت قبل الحاضرة بمسافةٍ قليلة لو علم أنها بعد الكثيب الرملي الذي مات قبله لجاهد نفسه على البقاء، إلّا أنّه حينما فقد الأمل لم يختَر الحياة ولا إكمال المسير.
الذي أردت قوله يا صاحبي: إن خسرت الزاد والراحلة فلا تخسر اللافتات على الطّريق.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.