يُعد كتاب "الأسرة وصحتها النفسية" المقومات – الديناميات – العمليات، للدكتور مصطفى حجازي، المركز الثقافي العربي،ط١، الدار البيضاء -المغرب 2015، من الكتب الهامة التي تبرز أهمية بحث صحة الأسرة النفسية ودراسة مقوماتها، وأساليب تعزيزها، ومن ذلك تبرز أهمية سياسات الأسرة وبناء اقتدارها، وذلك عبر قسمين يتناولان العديد من المواضيع الرئيسية والفرعية من خلال سبعة فصول؛ حيث يتضمن القسم الأول: الأسرة:خصائصها وتماسكها، والقسم الثاني: صحة الأسرة النفسية وبناء اقتدارها وتمكنها، وتكمن أهمية الكتاب في كونه يتناول الأسرة في مجتمعاتنا من كونها تُشكل نواة شبكة المؤسسات الناظمة لحياة إنساننا والمؤطرة لأنشطته، فيها تبنى أسس الشخصية وتوجهاتها وقيمها.
ففي الفصل الأول الذي يتضمن "الأسرة: تحديدها، مكوناتها وخصائصها" يخلص المؤلف إلى أن الهدف الأساسي للأسرة باعتبارها منظومة نفس -اجتماعية يتمثل في إيجاد التوازن الدينامي للأسرة، مما يسمح بالتعرف على أنماطها السلوكية، واستخلاص القواعد التي تحكمها؛ إذ لا يقتصر أمر توازن العائلة الذاتي على استعادة التوازن المفقود، بل هي تتميز أصلاً بالتناوب ما بين مقاومة التغيير والتغيير.
وهكذا فالأسرة الفاعلة وظيفياً وحياتياً قادرة على الموازنة ما بين الاستقرار والتغيير، وصولاً إلى التكيف مع ظروفها الذاتية والخارجية، مما يتمثل بقابليتها للتكيف من ضمن حالة الانتظام والاستمرارية.
لذلك تتوفر لها الصحة النمائية:التوازن في سياق التغيير، والتغيير في سياق التوازن.وتكون عندها بصدد حالة التوازن الدينامي.
إننا بصدد التفاعل الإيجابي ما بين الاستقرار والتغيير، أو بتعبير آخر الاستقرار والاستمرارية من خلال إعادة التشكل لمواجهة التغيير، تلك هي حالة النماء المعافى.
ومن هنا تنتظم المنظومة الأسرية في شبكة مستقرة نسبياً من التفاعلات، وتنشط بطرق مميزة من خلال مسيرتها النمائية، ضمن إطار من الاستقرار بناءٍ على مدى وضوح المنظومة الفرعية والحدود؛ إذ يُساعد ذلك على حسن قيام الأسرة بوظائفها: فوضوح خطوط المسؤولية والسلطة في تفاعلات الأسرة وأنظمتها الفرعية.
ومن الأمور الهامة في هذا الصدد مدى مرونة الحدود وقابلية نفاذها، مما يحدد سريان المعلومات ضمن المنظومة الفرعية ومع البيئة المحيطة.
أما الفصل الثاني: فيتضمن "تماسك الأسرة: المقومات، الأخطار، ومتطلبات التحصين"، وفي ذلك يشير المؤلف إلى أهمية توفير المناخ الاجتماعي لمواجهة خارطة المخاطر التي يتعرض لها التماسك الأسري؛ حيث تتوزع هذه الخارطة ما بين مخاطر بنيوية بتكوين الأسرة، ومخاطر خارجية محلية وعالمية.
وفي هذا الإطار، فقد أوضح الكتاب عدداً من المخاطر الخارجية، ولعل من أبرزها المخاطر الثقافية ماثلة في "الانفتاح الثقافي يروج له في الأساس لمشروع سيادة الفردية واستقلالها مستهدفاً في الأساس فئة الشباب التي تحاول العولمة الثقافية تنميطها في المأكل والملبس والأذواق والتوجهات والتصرفات، وبالتالي فالعولمة تهدف إلى القضاء على الانتماءات الوطنية والأسرية والاجتماعية وتحل محلها الانتماء إلى هوية رقم الحساب وبطاقة الائتمان مصرفياً، ورقم الحساب على الإنترنت وتقنيات التواصل الاجتماعي.
الأسرة بصدد التعرض لمخاطر ثقافية تسلبها مرجعيتها وانتماء أفرادها لها.
وتكرس وسائل الاتصال الاجتماعي سلب هذه المرجعية من خلال شد الأجيال الصاعدة إلى العالم الافتراضي والانتماء إليه والعيش فيه بدلاً من العالم الاجتماعي الواقعي.
أصبحت هيمنة وسائل الاتصال الاجتماعي مثار تندر؛ حيث يتحول أي لقاء بين أفراد الأسرة أو الأصحاب إلى مجرد تواجد ينخرط فيه كل منهم في جهازه المحمول، والتفاعل والتحاور مع العالم الافتراضي بدلاً من التفاعل والتحاور مع أعضاء الأسرة أو شلة الأصدقاء، وبدلاً من البروز من خلال قوة الحضور في جماعة الأسرة أو الأصحاب، تحول الأمر إلى نجومية الفيسبوك من خلال عدد الرسائل والتغريدات التي يرسلها وعدد الإجابات التي يتلقاها "عدد اللايكات"، إنها سمة العصر، وليس على الأسر أن تندب حظها، بل لا بد لها من تغيير فعلي في أنماط حياتها وعلاقات أفرادها وتفاعلاتهم، وصولاً إلى ابتداع أساليب عيش حياة أسرية تواصلية تفاعلية تتصف بالحيوية والتجديد، بما يجذب أبناءها إليها من جديد، فأساليب حياتها التقليدية أصبحت بائدة وغير فاعلة، وليس من المجدي التحسر على أيام زمان.."، ولذلك يضع الدكتور حجازي متطلبات التعامل مع ذلك الواقع وإبراز أهمية إعداد الأجيال الطالعة للعب دور الشراكة في هذه التحولات الثقافية.
أما الفصل الثالث: الذي يتضمن "الصحة النفسية الأسرية: الأسس، الخصائص، المهام والمتطلبات؛ "حيث تمثل صحة الأسرة النفسية ضمانة تماسكها وتآلفها واستقرارها وقيامها بوظائفها الحيوية بالفاعلية المطلوبة.
وفي ذلك تلعب قناعات الفاعلية الذاتية دوراً حاسماً في سيكولوجية التوافق والصحة الجسدية، وفي استراتيجيات سلوكات التغيير التي تقرر الأسرة الانخراط فيها.
أما الفصل الرابع الذي حمل عنوان "الذكاء العاطفي وبناء التفاهم الزوجي والأسري"، وفي ذلك أوضح الكتاب مفهوم الكفاءة العاطفية والكفاءة الاجتماعية؛ حيث تلعب الكفاءة الاجتماعية دوراً هاماً في الأسرة والمدرسة والعمل والبيئة المحلية، ومع الآخرين وصولاً إلى تعزيز المكانة الذاتية والروابط مما يعزز التحصين الذاتي ضد الشدائد والتعامل معها.
أما الفصل الخامس "التفكير الإيجابي في التعامل مع المشكلات الأسرية"، ومنها الوعي واليقظة الذهنية والبدائلية البناءة، وفي هذه السلسلة من الخطوات هي محاكمة الأفكار المغلوطة القائمة على التعميم أو الاستنتاج غير الواقعي أو التجريد الانتقائي، وصولاً إلى تنمية التفاؤل والتدريب عليه، وعلى ضوء ذلك الفصل، تناول الكتاب في الفصل السادس "الأسرة وإدارة ضغوط الحياة" والتي أرجع بعضها إلى تقلبات الاقتصاد وفرص العمل وتزايد متطلبات الحياة والتحولات في الأدوار في الأسرة وتبدل الكثير من المكانات، وتزايد طموحات الناس وإغراقهم بغواية الاستهلاك .
ومع ذلك فقد أوضح الدكتور حجازي أنه ليس هناك تعريف محدد ومتفق عليه للضغوط النفسية، ولو أنها تطرح كموضوع في مجال العمل وأعبائه وتحدياته، وفي مجال الدراسة ومتطلباتها للنجاح، وفي مجال الحياة العامة والاجتماعية، وفي مجال الأسرة وأطوار حياتها وظروفها، ومجال العلاقات بين البشر.
أما الفصل السابع فيتضمن "تمكين الشرائح الأسرية المتصدعة والمطلقات تحديداً" وفي ذلك يشير المؤلف إلى "أن ما يصدق على مستوى أولويات الحياة اليومية في التربية وأصولها، وإدارة ميزانية الأسرة، والتخطيط لمهامها ومشاريعها، يصدق من باب أولى على التمكن من العيش في عصر العولمة وظواهرها متزايدة التعقيد، والوقاية من أخطارها التي لم يعد هناك من حماية ممكنة منها بدون اقتدار معرفي، وصولاً إلى أخذ النصيب من فرصها المتعاظمة التي لا تتاح الاستفادة منها إلا لذوي الدراية والعلم.
* للتأمل:
– لأَننَا نُتقن الصَّمت، حمَّلونَا وزْرَ النَّوايا – غادة السمّان.
– قد أنسى ما قالوه لي يوماً..لكني لن أنسى ما جعلوني أشعر به – جورج برنارد شو.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.