يعرّف قاموس أكسفورد معنى كلمة "وهم" بأنها انطباع حسي خاطئ، وبذلك يفترض أنها لا تنتمي إلى قاموس العلم الرصين الذي يهدف للوصول لحقائق موضوعية مجردة، ومع ذلك ومنذ بداية القرن الماضي تزايد استخدام هذه الكلمة في أكثر من مجال علمي، الأمر الذي يشير إلى تنامي التناقض بين ما تمليه علينا حواسنا والواقع الموضوعي.
ومن ذلك -وضمن إطار أبحاث العلوم الإدراكية- تم إجراء عدد من التجارب لتحديد ماهية الإرادة، وفي إحداها تم تثبيت مستحِثات كهربائية حول دماغ شخص، مهمتها تحفيز الخلايا العصبية المعنيّة بتوجيه حركة سير رجليه يميناً ويساراً وإلى الأمام والخلف، ومن خلال جهاز تحكم متصل بتلك المستحثات تم توجيه سير الشخص موضوع التجربة وكأنه رجل آلي حسبما أراد المشغّل.
وأغرب ما في الأمر، أنه عند سؤال هذا الشخص كيف كان يحدد اتجاه سيره، أكد أنه كان يتخذ قراراته بحرية تامة ودون تأثير خارجي.
وفي تجارب أخرى، تم تسجيل أن تحفُّز الخلايا العصبية المعنيّة بالحركة يسبق تلك المعنيّة بقرار الحركة الواعي، أي إن اليد مثلاً تتحرك أولاً ثم يُتخذ القرار الواعي بتحريكها لاحقاً.
هذه التجارب وغيرها تشير إلى أن ما نسميها إرادة حرة ربما هي وهم لا أكثر، وباعتبار أن الوعي هو حاضنة الإرادة، فإن إنكار وجود الإرادة الحرة هو أيضاً إنكار للوعي ودوره، وقد كان هذا هو موضوع الحملة الثانية من التشكيك، التي استهدفت الوعي واعتبرته بحد ذاته وهماً أو خدعة تطورية تمكننا من افتراض مغزى لهذه الحياة وتدفعنا للتمسك بها؛ ومن ثم التكاثر وحفظ موروثاتنا الجينية، وذلك حسب ما يدّعيه عالم الإدراكيات دانيل دينيت.
وفي هذا السياق، يشبّه عالم النفس هوارد بلوم في كتابه "الدماغ الكوني" عملية اتخاذ القرار في العقل البشري باجتماع أعضاء مجلس إدارة لمؤسسة ما يغيب عنه الوعي والذي يمثل رئيس هذا المجلس، يناقش الأعضاء، المكوّنون من الغرائز البشرية الأساسية، الأجندة التي أمامهم ويتخذون القرارات كافة، وفي نهاية الجلسة يحضر الوعي فيتم إبلاغه ما اتُّفق عليه من قرارات، وينحصر دوره في عقد مؤتمر صحفي يعلن فيه ما تم التوصل إليه وربما نسب اتخاذ هذه القرارات لنفسه؛ من ثم فإن الوعي كما هي الإرادة مجرد وهم.
بشكل ما، تتفق الرؤية السابقة مع طرح مستقل تماماً، مصدره الفيزياء الحديثة، وبالتحديد نظرية النسبية لأينشتاين، التي تفترض أن الزمن هو بُعد رابع مكمل للأبعاد المكانية الثلاثة، وأنه يمكن لمراقب يرصدنا من مجرة بعيدة أن يرى إما ماضينا وإما مستقبلنا، وذلك حسب موقعه واتجاه حركته.
بمعنى آخر، فإن الحاضر والماضي والمستقبل موجودون بشكل متزامن ككتلة واحدة، وأن إدراكنا المحدود هو ما يحصرنا باللحظة الحاضرة، ومن هذا المنطلق يقول أينشتاين: "إن مرور الزمن هو وهم مهما كان ملحّاً".
إذن، فإن من المنطقي استنتاج أنه وفي حالة أن أحداث المستقبل موجودة ويمكن نظرياً رصدها، فإنه لا دور لأي إرادة في تغيير ما هو قائم فعلاً.
تتراكم إذن الأوهام من وهم الإرادة لوهم الوعي إلى وهم مرور الزمن، ولكن هذا ليس نهاية المطاف؛ لأن دائرة الوهم قد امتدت ضمن إطار العلوم الطبيعية لتشمل ماهية الواقع ذاته، فابتداء بتجربة الفتحة المزدوجة حيث تتغير نتيجة التجربة بناء على ما يتوافر للمراقب من معطيات، مروراً بتفسير مدرسة كوبنهاغن لفيزياء الكم حيث جسيمات المادة هي فقط موجات احتمالية لا تتجسد لواقع ملموس إلا لدى رصدها، وانتهاءً بفرضية الواقع الهيلوغرافي التي تصف الواقع المادي بأنه إسقاط ثلاثي الأبعاد لبيانات مختزنة على لوح ثنائي الأبعاد، تتراكم الأدلة العلمية على كون الواقع نفسه وهماً مختلقاً أو على الأقل غير قائم بذاته، ورغم غرابة هذا الطرح فإنه يشكل اليوم أحد أسس العلوم الطبيعة المسلّم بها ويقع عبء البيّنة على من يدّعي عكس ذلك.
إذا كانت الإرادة والوعي ومرور الزمن والواقع المادي أوهاماً، فهل هناك ثوابت حقيقية يمكن الركون إليها بشكل موضوعي؟ يبدو أن الإجابة العلمية لهذا السؤال ترتكز على أربعة محاور رئيسية؛ هي: المعلومات، وقوانين الفيزياء، والرياضيات والمنطق الصوري، ثم الجمال والتماثل الكونيين.
إذ يمكن اعتبار هذه المحاور ركائز موثوقة للنفاذ إلى جوهر الحقيقة الكونية عبر ضباب الوهم المتراكم، هنا تحتل المعلومات مكانة خاصة ضمن رؤية علمية حديثة قائمة على مبدأ حفظ المعلومات، ولعل من أهم تطبيقاتها مفهوم "أفق الحدث" المتشكّل حول الثقوب السوداء، حيث يتم على سطحه تخزين معلومات المادة التي يبتلعها الثقب الأسود فلا تفنى هذه المعلومات.
وهذا ما دعا للتكهن بأن ماهية الواقع لا تعدو كونها معلومات مختزنة على حافة ثقب أسود كوني! وقد شكل هذا الطرح أحد أسس فرضية الواقع الهيلوغرافي (في هذا السياق، تختفي الحواجز بين المعلومة بحد ذاتها وتجسدها على الواقع بشكل يشابه تداخل الرمز بالواقع الذي يمثله في رؤية ما بعد الحداثة).
أما فيما يتعلق بقوانين الفيزياء وما يصاحبها من ثوابت كونية، فكثير من العلماء اليوم يرون فيها أكثر من قواعد وصفيّة لعلاقة مكوّنات الطبيعة بعضها ببعض؛ وذلك لكونها مضبوطة بشكل فائق الدقة؛ لتضمن استقرار هذا الكون وعدم انهياره. وكذلك، فإن قدرة هذه القوانين البسيطة نسبياً على اختزال واقع فيزيائي بالغ التعقيد وثباتها عبر الزمان والمكان- لربما يشيران إلى أن الواقع المادي قد انبعث منها؛ ومن ثم فإن هذه القوانين هي حاضنة الواقع وليس العكس.
وينطبق هذا التوصيف بشكل أكثر تجريداً على العلاقات الرياضية، التي يُفترض أن العقل البشري قد ابتدعها كسلسلة فيبوناتشي التي تَبيَّنَ أنها متجسدة في الواقع بشكل عدد بتلات الزهور وصدفة الحلزونات وغيرها من الظواهر الطبيعية، وكأنما تجاوزت الرياضيات كونها أداة للوصف والتحليل طورها العقل البشري لتصبح جوهراً وأداة للتصميم وهو ما يذكّر بطروحات الفيلسوف هيغل حين تحدث عن كون آليات العقل من منطق ورياضيات هي جوهره ومحتواه الحقيقيان.
ويتفق هذا الطرح مع ما ورد في كتاب الفيزيائي مكس تيغمارك "كوننا الرياضي"، حيث الكون بكل تفاصيله ليس إلا بناءً رياضياً بحتاً دبّ الوعي فيه أو في جزء منه.
ونعرّج أخيراً على دور الجمال الكوني المتجسد في التماثل والتناغم في تشكيل الواقع المادي، وهو ما بنى عليه فلاسفة الإغريق (المثاليون) نموذجهم الكوني، حيث تناغمت لدى فيثاغورس حركة الكون وأبعاده على أسس ونسب موسيقية متجانسة، وتمحور الكون لدى أفلاطون حول مجسمات كاملة التماثل مستوحاة من عالم المثال.
وقد تبلورت هذه المفاهيم اليوم في شكل مرجعية فيزيائية حديثة تعتمد التماثل كمصدر رئيسي لاستنباط قوانين الفيزياء وتحديد هوية وخصائص الجسيمات الأولية، مع ملاحظة تعميم مفهوم التماثل ليشمل مبدأ بقاء النتيجة ثابتة مع تغيّر المدخلات، وهو المبدأ ذاته الذي اعتمده أينشتاين في اشتقاق نظرية النسبية وغيره من الفيزيائيين الذين أنجزوا ما يسمى نظرية النموذج المعياري، التي تعتبر من أنجح النظريات في تاريخ الفيزياء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.