يشكّل تاريخ الأندلس حلقة مميزة من حلقات التاريخ العربي الإسلامي، حظيت بعض محطاته بعناية الكثير من المؤرخين، واختلفت الكتابات من كاتب إلى آخر منهجاً وتحليلاً، لكنها اتّحدت في الحديث عن أنها حضارة، وعقيدة، وعن فكرة إنسانية، وعن تجربة عمرت زمناً، واختلفت اختلافاً جذرياً عما كان سائداً، ولا تزال الأندلس على الرغم من مرور نيف وخمسمائة عام على رحيل العرب عنها تحتلّ حيزاً كبيراً في الثقافة العربية والإسلامية.
ما يجمع بين الأدب والتاريخ أكثر مما يفرق، فالتاريخ سرد نفعي يكشف القوانين المتحكمة بصيرورة الماضي وما جرى فيه من وقائع، والرواية تهتم بالكشف عن الحقائق الجمالية التي تكمن في تلك الصيرورة من خلال التخيل وتحليل الأشخاص ووصف الأماكن والمشاهد التي كانت وراء تلك الحوادث، أي أن التاريخ يسعى إلى تقديم الحقيقة الكامنة فيما كان، في حين أن الرواية تسعى لتقديم الحقيقة الجمالية والوجدانية والخيالية لما كان وينبغي أن يكون، والرواية التاريخية لا تهتم بحرفية ما ترويه وصدقه وتجرّده عن التخييل والزيادة والحذف.
إذ يجوز لكاتب الرواية أن يضيف إلى الحوادث ما لم تذكره كتب التاريخ، وأن يختلق من الأشخاص ما لم يكونوا قط شريطة ألا يقع في التحريف أو قلب الحقائق.
من منا لا يتذكر المشهد الذي صوّرته كتب التاريخ لأبي عبد الله الصغير وهو يغادر الأندلس ملقياً نظرته الأخيرة إلى نخلة في الشاطئ فتملأ عينيه الدموع، ويلفظ ما سماه الإسبان "زفرة العربي الأخيرة"؟.. ومن منا لا يتذكر الصور المتعددة التي رسمت لهذا السلطان، تمثله مرة أسيراً، ومرة مهزوماً يقدم مفاتيح الحمراء على طبق من فضة للملكَين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا في الثاني من شهر يناير/كانون الثاني من العام الميلادي 1492، وقد انحنى بجذعه أمام خيلاء الملكَين وكأنه يهم بتقبيل يدي المنتصر، ليصبح هو المخطئ والمذنب وسبب ضياع ملك العرب والمسلمين في الأندلس، فنقف وجهاً لوجه أمام أبي عبد الله الصغير خائناً أضاع الأندلس كما يروي لنا التاريخ، نسمع أمه تقول له حين التفت إلى غرناطة باكياً: "ابكِ كالنساء مُلكاً لم تصُنه كالرجال" ونسي الناس الظروف والملابسات وأصبح الذين يحيطون به في حل من أمرهم.
وإسبانيا اليوم رغم أنها دفنت تلك الحضارة، وخلت هويتها وثقافتها إلا من قشور، تعيش متكسبة من أمجاد الأندلس وآثارها وتحفها الخالدة، ولا تحاول أن ترتبط بأكثر من ذلك، وإذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون فإن أنطونيو غالا في روايته "المخطوط القرمزي" يرى عكس ذلك، ويقول إنه أراد أن يكتب التاريخ من وجهة نظر الخاسرين، وأبو عبد الله الصغير هو أكبر الخاسرين آنذاك، لقد حاول الكاتب في هذه الرواية أن يضعنا أمام شخص آخر غير الذي عرفناه، لقد أراد أن يكتب تاريخ هذه الحقبة من المحنة الأندلسية في قالب قصصي يجمع بين الدقة والحياد الموضوعي والتخييل الذي يُعنى بما لم تذكره كتب التاريخ، واقتناص التفاصيل وجمعها من المصادر المختلفة والمنابع المتعددة؛ ليركب منها نصاً تمتزج فيه شفافية الرواية، ومرجعية التأليف التاريخي، وغنى السيرة الذاتية بالتحليل والصراع النفسي الداخلي، إنه من الشخصيات التي انطوت حياتهم على أحداث درامية مثل أنطونيو وكليوباترا، ولعل شخصية أبي عبدالله هي أكثر درامية وإثارة للشجن.
ورواية أنطونيو غالا "المخطوط القرمزي" واحد من أهم الأعمال الأدبية التي تشد القارئ وتسكنه، ولا يمكنه أن ينساها، فيها يؤرخ الكاتب الإسباني العاشق للأندلس والشرق صورة ذلك المجد وتاريخ تلك الحضارة، ويحاول فيها الدفاع عن أبي عبدالله الصغير، فالرواية كلها تدور حوله، يقول الكاتب: إن بعثة فرنسية قامت بإجراء حفريات في مراكش سنة 1931 في مبنى جامع القرويين وقد اكتشف المنقّبون وجود زيادة في مساحة الأساسات تخالف المساحة المتوقعة، وبعد التحري عُثر على غرفة كانت قد شُيدت في أحد الأساسات. وفي تلك الغرفة أخفيت بعض المخطوطات التي منها هذا "المخطوط القرمزي" الذي يضم يوميات آخر سلاطين بني الأحمر.
ويحاول المؤلف، بطبيعة الحال، إقناعنا بأنه عثر على هذه اليوميات وأذاعها في الناس لا أكثر ولا أقل، وإمعاناً في إضفاء طابع الحقيقة التاريخية على روايته استطرد في الادعاء بأنه حاول قدر استطاعته التأكد من أن المعلومات التي أوردها أبو عبد الله في "مخطوطه القرمزي" معلومات صحيحة وتوافق التسلسل الزمني التاريخي، وأن الأشخاص الذين ذكروا فيها قد ذكروا بأسمائهم الحقيقية وليست الأسماء فيها مستعارة.
حتى إن المؤلف يدعي استكمالاً لهذا الجزء من استراتيجيته السردية أن مقدمة المخطوط والملحوظات الأخيرة وجدت مضافة إلى الأصل وقد ألصقتا به في ضمامة واحدة.
الفصل الأول من الرواية بعنوان "أنعم بالسلامة في البستان" يتناول طفولة أبي عبدالله وصباه من خلال علاقته بعدد من الشخصيات، المرضعة صبح وفايز البستاني وعمه يوسف والطبيب إبراهيم اليهودي، ونسيم الخصي وأخيه يوسف، وعمه أبي عبدالله الذي سُمي فيما بعد بالزغل، وأمه عائشة وزوجته مريم.
ومن خلال علاقته بهذه الشخصيات نطلع على خفايا قصر الحمراء في هذه المرحلة من دولة بني نصر، ونرى كيف كانت أمه عائشة حانقة على أبيه السلطان أبي الحسن لزواجه من امرأة أخرى من أصل مسيحي تُدعى ثريا.
وقد انتهى هذا الفصل بمؤامرة من أمه وبعض شخصيات القصر أدت إلى خلع أبيه وتوليته ثم كانت حروب وفتن بين المسلمين أنفسهم، أو بينهم وبين المسيحيين.
والفصل الثاني تحت عنوان "طيور الرحمة" يتناول حياة أبي عبدالله في الأسر، وما صحب ذلك من أحداث جسام، ومؤامرات وحروب، والفصل الثالث عنوانه "كبارهم وكانوا لا معين" ومعظمه يدور حول إقامة الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا لمعسكر قريب من غرناطة أطلقا عليه اسم "سانتافي"، أي الإيمان المقدس، ومن هذا المكان جرت المفاوضات الطويلة بين الجانبين والتي أدت في النهاية إلى تسليم غرناطة، أما الفصل الرابع والأخير "كل موسيقى تتوقف" وهو عن تسليم المدينة وما تلا ذلك من أحداث انتهت بذهاب أبي عبدالله وأسرته ومن معه إلى مدينة فاس في المغرب.
من أهم ما تحويه الرواية تأملات ينسبها أنطونيو غالا لأبي عبدالله الصغير، منها هذا التأمل حول المسجد الجامع في قرطبة وهو أحد أعظم مساجد الدنيا: "إن هذا الجمال لا يمكن أن يكون نتيجة حرب أو انتصار أو حتى نتيجة لثقافة بادئة، وإنما كان نتيجة سلام مقيم، واتجاه روحي بلغ أقصى مداه إنه ليس عملاً شخصياً، ولا مجموعة أشخاص، وإنما هو عمل فكرة رئيسية عن العالم. أي دين رفع هذه الغابة من الأعمدة لكي يحيط بنظرة المؤمنين ويعلو بها لا لتوجّه إلى أي احتفال، وإنما كي تتجه نحو إله واحد أحد؟".
وهناك تأملات كثيرة في "المخطوط القرمزي" لأبي عبدالله ذلك أن وجوده في أي مكان يصير دافعاً قوياً للتأمل. فهو يكتب تأملاته في المسجد الجامع، أو عندما يغادر قصر الحمراء، أو عندما كان يقدم على معركة حربية أو مناوشة، حتى إنه عندما ذهب إلى فاس ليمضي بقية حياته فيها، كتب عندما شاهد ما شاهد فيها: "إن المدن مثل النجوم تتأخر في الانطفاء حتى بعد أن تموت"؟
الرواية تستثير القارئ العربي لأسباب أهمها أن الأندلس هي الغائب المغيب في أعماق كل منا، والنقطة الأخرى التي تستدعي الاهتمام هو أن كاتبها إسباني، تخلص من تلك "النوستالجيا" والحنين التي من الممكن أن تطغى على السياق السردي في الرواية فيما لو كتبت من قِبل روائي عربي.
فالروائي كان مخلصاً في سرده لتاريخ الأندلسيين، متحرراً من الخلفيات التاريخية، على الرغم من أن محور الرواية يدور حول الصراع العقائدي بين العرب والمسيحيين في إسبانيا فإنه تجاوز جميع هذا ونقل لنا الأندلس كحضارة عظيمة استوعبت المكان وهضمت الزمان، إلى أن وصل معسكر أبي عبدالله الصغير لينقل لنا طفولته وصباه، وصولاً إلى لحظات انكساره التي قرعته فيه أمه بقولها: "ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال".
السرد كان مفعماً بالتفاصيل عن حياة العرب في الأندلس، وكيف أن الأجيال اللاحقة للفاتحين الأوائل استقرت في المكان وأنشأت خليطاً ذا خصوصية فريدة في صهره لفلسفة الشرق والغرب في بنيان نادر الحدوث يدعى الأندلس.
وكل هذا جاء مدعماً باطلاع عميق على الفلسفة الإسلامية وجذورها العقائدية ومساراتها التاريخية، وكيف تبدت عند الأندلسيين في أشعارهم ومعمارهم وعلاقاتهم والحدائق والماء، وصولاً إلى ساحات المعارك، جميع هذا مطعّم بالعشرات من الأبيات العربية التي قالها شعراء الأندلس.
وحتى لا يبدو السرد مثقلاً بالأحداث التاريخية، فقد استطاعت مخيلة الكاتب أن تنتج من خلال الحدث التاريخي شخصية أبي عبدالله الصغير نابضة بالتوق والعذاب والانكسارات وهو يساوم على مفتاح غرناطة، حيث ظهرت شخصيته شفافة رقيقة تميل للفلسفة والشعر، ولا تجد في ميدان المعركة حلاً لمعضلات هذا العالم.
فعلى امتداد الصفحات 509 يطلع القارئ على هذه المتعة التي تستند إلى قراءة تاريخ المرحلة، إلى خرائط المواقع والحروب والانكسارات، يجعلنا نقوم بنزهة في حدائق غرناطة، ندخل القصور والأسواق ونجلس على ضفة النهر الكبير، هذه الرواية هي قصة حياة أبي عبدالله الصغير.
أراد الكاتب أن يضعنا أمام شخص آخر غير الذي عرفنا في التاريخ، لقد أراد أن يقول لنا إنه شخص من لحم ودم عاش الحياة بحلوها ومُرّها، شخص بكى لأنه عرف أن التاريخ سيضع على كاهله ما لا يد له فيه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.