تتكاثر الأخطاء والخطايا المريرة في حياة الأفراد والأمم والجماعات عبر فتيل خطر صغير أو كبير ينفجر في تكوينها، ويكبر الشعور بالمرارة شيئاً فشيئاً، بخاصة إذا ما أتى الانفجار من مأمن، أو من جانب الذي رأى الفرد أو الجمع أنه لا يستحق الالتفات أو مجرد المتابعة، فضلاً عن المراجعة، وهو ما حدث مع جماعة الإخوان في المرة الأولى مع الرئيس المصري الراحل "جمال عبد الناصر".
ومن الثابت تاريخياً أن "عبد الناصر" عاهد التنظيم الخاص للإخوان على السيف والمصحف أن يكون واحداً من أفراده، ثم تمادى الإخوان في الثقة فيه رغم أن مذكرات الثقات منهم كانت تقول بأنه لم يكن يقوم إلى الصلاة من الأساس في اجتماعاتهم، وهو أيضاً الذي قال في منزل المرشد الثاني للإخوان الراحل "حسن الهضيبي" لما سأله كبار الإخوان: ماذا تريد من مصر؟ فقال، على البداهة ولم ينتبه الجمع لخطورة قوله: أريد أن أضغط على زر فتصحو مصر كلها، وأضغط على آخر فتنام.
والدلائل على خطأ بل خطيئة تقدير الجماعة في دفعها للراحل "عبد الناصر" إلى قيادة مصر، وبالتالي تبديد طاقات مصر والجماعة أكبر من أن يحيط بها المقام.. ولكن يهمنا أن الجماعة فضّلت الأخير على الديمقراطية والحياة السياسية السوية الصحيحة، وقبلت منه حل الأحزاب والإطاحة برجالها، بل القضاء على الحياة السياسية للرئيس الراحل "محمد نجيب" وإقصاءه بعدما نادى بعودة الجيش إلى ثكناته.. كل هذا أملاً في أن يُبقي "عبد الناصر" على الإخوان حتى إنه التهم مصر ومخلصيها، وهو ما تطور حتى وقفة قصر عابدين الأشهر في عام 1954م حينما احتشد عشرات الألوف من الإخوان منادين بوقفة أمام تغلغل العسكريين في مفاصل الحياة في عموم مصر، والتخوف من التهام الجماعة لما بدت بوادرها واضحة، وكادت الوقفة أن تحقق أهدافها لولا أن "عبد الناصر" استدعى الراحل "عبد القادر عودة"؛ ليفضّ الجمع له على وعد جديد بالدعوة لانتخابات خلال أشهر قليلة هذه المرة.. وما لبثت الوعود أن تكشفت عن وهْم وسراب أكمل به الراحل "عبد الناصر" على الإخوان وأعدم الراحل "عبد القادرة عودة" مقابل جميله بصرفه الجمع عن قصر عابدين، بعدما كان "عبد الناصر" مختبئاً فيه لا يستطيع أن يطلّ برأسه على الجمع موقناً بنهايته هو وضباط يوليو/تموز 1952م.
وتكثفت السحب والغيوم في أفق مصر وتورط طرف من الإخوان في محاولة اغتيال "عبد الناصر"، سواء بتوغل مدسوسين بداخلهم أو تصرّف غير محسوب من جانب بعض أفرادها، وكان ما كان، ومن المؤسف أن بعد نحو ستين عاماً تعملقت خطيئة الإخوان من جديد؛ لتثمر شخصاً آخر تثق فيه فيعصف بها مجدداً.. "عبد الفتاح السيسي".
لكن تمام المأساة الجديدة أغرق كثيراً من قيادات الجماعة في عقدة تكرار الخطايا والوقوف محلّك سِرّ أمام تجاوزها، فانعدمت الرؤية تماماً منذ يوليو/تموز 2013م وبادرت الجماعة إلى جمع أتباعها ومحبيها إلى ميدانَي رابعة والنهضة دون تفكير أو روية، وفي نفس الوقت التي كانت فيه تجمع عشرات الآلاف كانت تشيع أن الجيش يطلب التفاوض معها، ويبحث عن حل للمأساة، وأنه في سبيله لتقديم تنازلات ترفضها الجماعة، وثبت أن الجماعة كانت تداور لتفاوض خلف أبواب السجون فيما تقول لأتباعها إنها منصورة من قِبَل رب السماء، وإنه سينتقم من "السيسي" ومن دار دورانه ولفَّ لفّه.
وسواء أكان "السيسي" رفض التفاوض مع الجماعة كما يحلو لها أن تقول وتعيد وتزيد اليوم، أو أن قوى دولية عرضت عليها التصرف بروية.. والأمر لا يخص قبولنا أو رفضنا للأمر.. ولكنه يخص حقن الدماء الذي لم تنجح الجماعة فيه، فتورطت في الزج بأتباعها في معركة صفرية مع الجيش المصري، دون قدرة على المواجهة أو روية أو رؤية أو استراتيجية أو حتى مجرد شعور بالمسئولية.. ومن مقولات رددتها الجماعة من أنها إذا استنفدت الوسع أتاها النصر من السماء، واستشهاد خاطئ في غير محله بالسّنّة والكتاب.. إلى خيالات منصة رابعة والنهضة انتهى بالأمر على النحو المأساوي.. وتم البطش بعشرات الآلاف من أتباعها.
واستمر الخطاب المتخبط للقيادات بدلاً من التحلل من الخطأ.. فمرة أن كبار أتباع "السيسي" يُطلبون منها الصلح، ومرة أنه لا يريد أن يحل الأمر معهم، فلما أسفر كل هذا عن العدم صارت القيادات في الغربة تبحث عن حلول فردية تُبقي على حياتها مع التخلّي عن الصف كله، فمن ساعين لنيل الجنسيات المختلفة بخاصة التركية للخروج من المأزق إلى المُتعلقين بأبواب قصور الملوك والحكام والأمراء العرب جميعاً، لا "السيسي" وحده، بل حتى دولة إسرائيل، كما في بيان جبهة "عزت" بمناسبة القمة العربية الأخيرة، وعقبه تم اعتذار هزيل بعد أن أدى البيان الهدف المطلوب منه.. ثم جاءت أكبر الأثافي بإعلان السيد الدكتور "إبراهيم منير" عن أن الجماعة التي زجّت بالملايين من أتباعها في المحن المختلفة في خضم مآسٍ متعددة، قال الأخير جماعة "إصلاحية" وليست "ثورية" ولا ينبغي للأنظمة العربية أن "تخشى" منها!
إن الإخوان اليوم ممثلين في قيادات الخارج إذ يتمسكون بمقاعدهم والأموال التي تصل إليهم من ناحية، وما يمكن أن يحصلوا عليه من جنسية من هنا أو هناك، متعللين بأن "السيسي" لا يسمع لهم، وأنه لا حل، هازئين في نفس الوقت بالطرح العاقل الذي طرحه عليهم الدكتور "إبراهيم الزعفراني" من إعلان اقتراح رؤية تعلن الجماعة فيها الإبقاء على نفسها بإعلان تخليها عن الجانب السياسي لها من جانب المرشد الدكتور "محمد بديع"، وهو ما طرحه بنفسه نائبه "إبراهيم منير" منذ أشهر قليلة على شاشة "الجزيرة" لما قال إن الجماعة "إصلاحية"، وفي الأمر متسع لإعمال الفكر من جانب مئات القادرين على إعمال الفكر من أبناء الجماعة ومن مخلصي الأمة.
وفي المقابل فإن القيادات التي حشدت الآلاف في رابعة والنهضة لا تزال ممسكة بتلابيب المقاعد وسدة الجماعة، دافعة بالمئات في أتون محنة لا يعلم إلا الله مداها، ومتحججة بعدم استجابة أحد للطرح المتردد الخافت الذي تهمس به بعدما ملأت الدنيا صخباً وجلبة أنها منصورة رغماً عن أنف مَنْ لم يرضَ.
وفي النهاية، فإن بقاء الأمر على ما هو عليه، وتعمّد اختلاق المبررات لا يعد إلا أن يكون تفشياً لعقدة الخطأ والخطايا التي بدأت منذ "عبد الناصر" وتفشَّت حتى "السيسي" وما خلف الستار وتستشعره النفس في الموقف أكثر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.