الرواية التي فُقِدت لجنون أنثى شرقية

أنا أتفق كثيراً مع نيتشة حينما حدّد علاقة النساء مع الرجال بكونها الحاجة الدائمة للمرأة إلى قوة الرجال كحاجة رجل الحرب إلى السيف، لكن ما هو أعمق من هذا، هو تلك البنية الانفعالية وقدرتها على تطويع صلابة الرجل بخلق قوانين خاصّة بها تجعل الرجل خاضعاً ومنصاعاً لها ومنغمس الاهتمام في عالمها، إلى أن أصبح هذا النوع من الاستلاب محدّداً للشكل الوجودي للرجل الذي تعشقه كل النساء.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/25 الساعة 03:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/25 الساعة 03:18 بتوقيت غرينتش

كلنا متيقّنون يقيناً لا مجال فيه للشكّ أن المرأة كتلة من الأحاسيس والمشاعر الرقيقة، عاصفة من العواطف الجيّاشة ومن الوجدانيات الدفينة.

لكنها في آن واحد ذلك العنفوان الذي لا يأبه بأي شيء أمام أنانيته، كبرياء لا يعترف بوسط محايد، فهو لا يتردد أبداً في جعل ذاته معياراً للنبل والأخلاق، صوت ملائكيٌّ قد ينقلب إلى وحش بارد في أيّ لحظة، هذا الحجم الهائل من المتناقضات المتمثّل في بنية من الانفعالات يمتلك في داخله قوّة تأثيريّة أقوى من البنية الانفعالية للرجل، ذلك أن القوة الحيوية للعواطف التي تمتلكها وقدرتها على الجذب والتأثير المتجسّد بالتزيِّي المأساوي والتخفّي وراء الأقنعة التي توهم بالشفقة أحياناً تجعلها مستحوذة على أقوى أسلحة للإخضاع يفوق الدهاء والذكاء الذي عادة ما يتّصف به الرجال.

أنا أتفق كثيراً مع نيتشة حينما حدّد علاقة النساء مع الرجال بكونها الحاجة الدائمة للمرأة إلى قوة الرجال كحاجة رجل الحرب إلى السيف، لكن ما هو أعمق من هذا، هو تلك البنية الانفعالية وقدرتها على تطويع صلابة الرجل بخلق قوانين خاصّة بها تجعل الرجل خاضعاً ومنصاعاً لها ومنغمس الاهتمام في عالمها، إلى أن أصبح هذا النوع من الاستلاب محدّداً للشكل الوجودي للرجل الذي تعشقه كل النساء.

أعلم جيّداً أنّ الغوص في ثنايا البنية النفسية للمرأة كمحدِّد مهم لجزء من شخصيتها (البنية الاجتماعية والثقافية محددة للجزء الآخر من الشخصية) قد يكلفنا أحيانًا جهداً وعناءً لا طائل منه، غوص في بحر مليء بالدوّامات، بحر في ليلة عاصفة غيومها تحجب عنك الرؤية، كم هو عميق هذا البحر! وكم هي صعبة ومرهقة تلك المهمة التي يظل يبحث المرء فيها عن حدود له!

تحسبه في البداية أنه حرّ طليق، لكن حريته عنيدة وهشّة في الوقت ذاته، إنه يلوح دائماً في أفق بعيد، في المناطق القصوى؛ حيث يستطيع هذا الجنون الأنثوي البوح عن أسراره في فضاءِِ يبيح هذا الجنون لنفسه أن يتحدث عن ذاته بلغة جنونه الخاص، فلا يستطيع أن يدركها الرجال سوى بالتماهي مع لغتها وجنونها، جنون يشقّّ على كل رجال العالم الإمساك به، قوة منبعثة في العمق؛ حيث يتم من خلالها تجاوز الحدود القانونية الثابتة للفرد أين تثوي داخلها سلطة القضاء على دهاء الرجال عدى المنصهرين تحت قوانينها المتشظية.

أنثى صعبة المنال، متحصّنة في عمقها الثابت والصلب من كل محاولات الإضعاف والانكسار.

انسجامٌ خفيٌّ رغم التناقضات، يسير ويحافظ على نفسه من خلال تنوّع أساليب وأدوات التساوق مع الذات، انسجام عميق لكنّه متغيّر ومتحرك تاريخياً منذ وهلته الأولى، هذا المكوّن متوغّل دائماً نحو سيكولوجية الجنس الآخر المتّصف بالخشونة والصلابة والغلظة؛ كي يقوده إلى ضياع ذاته، حتى يصبح شيئاً آخر غير ذاته، يسلم إلى ما لا يتوافق مع إرادته العميقة، فهو بريء؛ لأنه ليس ما هو عليه، ومذنب لكونه هو شيئاً آخر غير ذاته.

إذا لا يعدو أن يكون إلا جزئياً جنون هذه الأنثى، شفّافاً بلا لون يتحرك بخفة، جزءاً من روح الجنون الحقيقي، تتصرّف بلياقة ولباقة تريد أن تبرز تعقّلها في الشكل لكنها تنساق باندفاع وراء أشياء لا يدرك سببها الحقيقي، ولا يحدّد معناها إلا لغة جنوها الخاص، هو انجراف وراء ميل لا يقاوم، نحو أفعال مليئة بالعنف والانفجار والغليان الجواني.

بيد أنّه جنون لا يمتلك الجرأة لأن يتحرّر تحرّرا كلياً فيدفع بنفسه نحو جنون كلّي حقيقيّ، جنون يعكس حقيقة الإنسان وشكله الخالص، تلك اللحظة الأساسية والعفوية في الإنسان على أتّمها بانتقاله إلى الجنون (أو الإنسان) الحقيقي الذي لا تحدّه الأخلاق والظروف، أخلاق الأعراف التي بدورها أصبحت أقلّ سلطة وهيمنة من ثقافة الوصايا على شعوب الشرق (إمبريالية الثقافة الغربية على شعوب الشرق).

جنونٌ يعشق التناقضات واللامعنى والوقوف على المنطقة الرماديّة، لكنك لن تجد لنفسك من سبيل سوى طريق المجازفة.

في عالم مليء برهط يعشق المغامرات، الكل مشغوف بتقمّص الأدوار البطولية في وحل معارك من هذا النوع، يزعمون القدرة على المجابهة والثبات وتحمّل أعباء الطريق لكنهم قليلون من هم يعترفون مسبقاً أنهم مقدمون على معركة خاسرة منذ البداية، سيخرج منها في كل الأحوال كنسرٍ شامخٍ لكنّه مكسور الجناحين، لم يعد بوسعه أن يحلّق في السماء.

حظوظ الانتصار في مثل هذه المعارك إذاً ضئيلة جداً وتكون أشدّ عسراً أمام شخصية صاغت سرديّة تقدّمها وتمدينها عقل ما زال لم يتجاوز حالة الدهشة والانبهار بالثقافة الغربية ومنتجاتها الحضارية.

لقد أصبح من الممكن القول إن العالم العربي الآن على درجة عالية من الوعي للمقيدات المفروضة للتمثيل الثقافي للمرأة، وللضغوط التي تدخل في التمثيلات الاختلاقية، فلم تعد قيم العفّة والشرف من يحرّك مخيال المرأة الشرقيّة في علاقتها بالجنس الآخر بعدما ترك مكانه لمخيال يحرّكه بدرجة أولى نموذج ثقافي آخر فرض معركة وجودية بينها وبين الرجل العربي ذي النزعة الذكورية، سردية اختزالية تمتلك في داخلها قوّة تقليصية طوّقت وكبّلت إمكانات حضور شخصية الرجل العربي الذي تتحدّد شخصيّته بقيم المروءة والشهامة والغيرة والاحترام المتبادل في نفس الوقت.

هنا تغيّرت أرضية المعركة وأصبحت السيكولوجية حضورها كأداة، الأمر هنا يتعلق بالانتقال من عالم السيكولوجيا إلى عالم الثقافة، من هنا أصبحنا نتحدث عن شكل آخر من أشكال الوجود الإنساني وعن نموذج آخر للكينونة المراد صنعه، شكل وجودي يتطلب بدوره أساليب وطرقاً للتحررّ مغايرة جذرياً عما سبقها، عن فكّ الارتباط بإبستيمات المعرفة الإمبريالية ونسقياتها هنا نتحدث، تلك المعرفة التي غرست في واقعنا بذوراً مستعارة، أينما حلَّت بسطت أجنحتها لتملي علينا شروط إنسانيتها المختلقة، إنسانية متغطرسة لا تتورّع في إقصاء من يسكنون الجزء الآخر من العالم، الذي بهم تكتمل لوحة فسيفساء الإنسانية الحقيقية، إنسانية مزيّفة لها من الكبرياء ما يجعلها لا تعترف بأحقيّة الشعوب الأخرى في بناء وصياغة منوال تجربتها الإنسانية كتجربة منسجمة مع تجربتها التاريخية وانتمائها الحضاري.

منذ مدّة إذاً والتابع أصبح هو من يتكلم، عن حقهن في العيش داخل نمط جديد للحياة الأوروبية، ذلك التابع المغمور باللحاق بالمرأة الأوروبية، أوْربة لم يعُد ينادي بها ذاك الرجل الأبيض الذي امتلك لعقود طويلة طقوس العبور، ذاك القادم من بعيد من وراء البحر الذي قد سمّي بلون بشرته، لكن وراء هذا كلِّه هناك مَن يؤدي خروجه من دائرة الصمت الذي طال أمده، ومن تلك الهمهمات الضمنية التي فرضتها الحقبة الاستعمارية، إلى تشكّّل جديد داخل صمت تخترقه الصرخات، يتجاوز به صوت الممنوع والمحجور الذي تمّ إلجامه باسم صنم الحداثة الغربية، حتى جعلوا كلامه مثيرًا للسخرية ومتّهماً بالهذيان، إلى أن تم رسم صورة ثابتة وسكونيّة لرجل شرقي تمّ اختلاقه والاعتماد على هذه الصورة المشرقنة كمدخلِِ أساسيّ لإخصاء شعوب الشرق ومكتسباتها الرمزيّة للتقليص من إمكانات الصمود أمام الغزو الاستعماري، وتخدير الشعوب بخطابات القيم الكونية التي لم تكن سوى قيم مثبَّتة على "ماهوية ثقافيّة" تهدف إلى تعميمها على شعوب البلدان المستعمَرة، باستعمال كل الأساليب المتاحة في حوزتها، ماهوية لم تطرح تساوي الطاقات الكامنة في الثقافات لتحقيق ما هو إنساني.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد