تتساقط أولى قطرات المطر فتلامس في شفافيتها شغاف القلب، تغازله وتمسح عنه فتات جراحه، فتمطر الروح حناناً كما تمطر الغيمةُ ماءً.. يبعث الشتاء في روحي أحاسيس مختلفة وكأن صحراء سكنت روحي أعواماً ثم ما لبث الشتاء أن أحيا فيها بعض عروقها الذابلة فدبَّت الحياة في شرايينها وارتوت بها الروح.
تمطر السماء فتمطر في قلبي بساتينٌ من الياسمين تداعب على حين إصرارٍ وجنتيّ وتقبِّل بتلاتها جبهتي فتشع نوراً وطهراً. يغسلني المطر كرضيعٍ صغير تلتف حوله الأكف، ترفعه ثم تغمسه في الماء فيستفيق ويفتح عينيه يقدم بسمةً لهم ثم ينام، هو والمطر أخوان لغيمةٍ واحدة ورضيعان من غيمة حنون غافيةٍ في أقاصي السماء.
لي وللمطر حكاياتٌ غُزلت من نور ثم تنفست فأضاءت عتمة أحزاني، أنا أهديت غيمة بعض لآلئ أدمعي وهي أمطرتني قطرات من فرح، فتشاركنا الشتاء؛ هو فصلها لتبكي وأنا فصلي لأمسح بمائها أدمعي وأتوضأ لأُصلي لربي وربها، أنا والغيوم أصدقاء الوحدة.
في المطر بداية لكل موسم، فيه ولادة لفصل سنوي خامس يعقب الشتاء ويسبق الربيع، فصل تزهر فيه الروح وتغتسل طاهرةً منه الأوجاع، فصل يشبه الحب تارةً ويشبه العشاق تارةً أخرى، ملونٌ بالحنين، فهو كالأمل يتخفّى بروعةٍ فينتقي من الذاكرة أجمل ما عاشت وأجمل ما حملت من حكاياتٍ مصففةٍ كقطرات المطر، تصب أشواقها هنا وهناك، تزهر الأحلام الوردية متوضئةً بطهر المطر وغافية تحت صدر غيمةٍ ممتلئة الغلال.
لا يلام الشعراء إذا كان المطر رفيقهم، فبدر شاكر السياب أبدع "أنشودة المطر"، فيها الحب والرحيل والوطن والألم والطفولة والأمل:
أُنْشُودَةُ المَطَر
مَطَر
مَطَر
مَطَر
تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال
تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ
أما نازك الملائكة فـ"على وقع المطر" تكتب أجمل قصائدها، فتلتحم مع قطرات المطر روحُها وتطلب من المطر أن يغفر لها حزنها وأن يمسح رفات روحها التائهة:
أيّها الأمطار، قد ناداك قلبي البشريّ
ذلك المغرَق في الأشواق، ذاك الشاعريّ
اغسليه، أم ترى الحزن حِماه الأبديّ
إنّه، مثلك يا أمطار، دفّاق نقيّ
أما شاعر الدفء والحب نزار قباني، فلا يمكن إلا أن يكون المطر حاضراً عندما يكتب الشعر:
الشعر يأتي دائماً
مع المطر
ووجهك الجميل يأتي دائماً
مع المطر
و الحب لا يبدأ إلا عندما
تبدأ موسيقى المطر…
هكذا يبدأ فصل المطر والروح معاً، كلاهما يسكن جسداً وغيمةً، توأمان في الإحساس، يرسمان مواعيد الفرح القادم على مهل، ويعزفان موشّحاً أندلسي اللحن والكلمات، وعلى قيثارة المطر المتساقط تتراقص العصافير تغرد حباً للمطر.
هكذا أنا، أحب المطر كما يفعل الجميع، أرتب معه أحلامي، أصادقه وأقرأ قرب نافذتي الدافئة بقطراته ترتيلاً روحانياً عذباً لقوله تعالى: "وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً".
للمطر دائماً رحلةٌ في القلب تملؤه شغفاً ونقاء.. إلى النقية قلوبهم، أصدقاء المطر: تطهَّروا دائماً في موسم المطر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.