قصتي مع الترجمة

يقول أرسطو: "الجاهل يؤكد، والعالم يشك، والعاقل يتروَّى". ويقول كونفوشيوس: "لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا بعد أن يتعلم كيف يفكر"، من هنا يمكن أن نتبين أن حياة الإنسان مرتكزة على عنصر هام ألا وهو "العقل".

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/23 الساعة 03:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/23 الساعة 03:28 بتوقيت غرينتش

يقول أرسطو: "الجاهل يؤكد، والعالم يشك، والعاقل يتروَّى". ويقول كونفوشيوس: "لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا بعد أن يتعلم كيف يفكر"، من هنا يمكن أن نتبين أن حياة الإنسان مرتكزة على عنصر هام ألا وهو "العقل".

ويقول أفلاطون: "إن الإنسان هو حيوان ناطق"، فإن الله قد ميَّز الإنسان عن سائر المخلوقات بنعمة العقل والتفكير. إذاً إن الإنسان هو كائن مخير وليس مسيَّراً، فمن خلال الفكر يمكن أن يختار ويعبد درب العمر والحياة. أما من وجهة النظر الفلسفية فحياة الإنسان ترتكز على عاملين هما: "العقل والميل"، فالعقل هو كناية عن الواقع وحالة الوعي، أما الميل فهو كناية عن الرغبة واختلاجات النفس اللاواعية.

إن اختيار فرع الترجمة كمادة علمية وحقل للدراسة لم يكن قراراً سهلاً، أو على سبيل الصدفة؛ لأنَّ هذا القرار يمثل عملية اختيار طريق العمر والمستقبل.

لقد كانت هناك عدة عوامل بلورت لي هذا الاختيار:
أولاً: إننا اليوم في القرن الواحد والعشرين نعيش ظاهرة سياسية وأيديولوجية واقتصادية وثقافية وهي "العولمة"، فإن العالم اليوم أصبح قرية كونية صغيرة من خلال تسهيل عمليات الانتقال بين مختلف الدول للأشخاص والأفكار والمعلومات والأعراف السلوكية، بما يؤمّن توحيد العالم.

ففي عصرنا الحالي أصبح لوجود المترجم بالغ الأثر والأهمية؛ لأنه همزة الوصل ما بين الشرق والغرب والشعوب والدول والتكتلات الاقتصادية، من خلال تسهيل عملية التواصل والتفاعل والاندماج الاجتماعي.

إذن فظاهرة العولمة تظل نظرية أو أفكاراً غير مطبقة لولا جهود المترجمين.

ثانياً: إن الأدب هو بمثابة المغذّي والمنشط لعملية الترجمة.

بالنسبة لي، فإن قراءة الأعمال الأدبية هي بمثابة الغذاء للروح، وفرع الترجمة كان وليد هذا العشق والتعطش للقراءة والمطالعة.

إن المترجم لا يقل أهمية عن الكاتب فهو ذاك الجندي المجهول الذي يقوم بنشر الأفكار الأدبية لتوحيد كلمة الأدب والفكر والعلم والتصوف.

ثالثاً: إن العالم يُكون نسيجاً متنوعاً ومتعدداً من حيث الثقافات، ولعل أبرز عنصر من عناصر الثقافة لشعب ما هي لغته، فقال الشاعر وديع عقل:

لا تقل عن لغتي أُم اللغات ** إنها تبرأ من تلك البنات
لغتي أكرم أم لم تلد ** لذويها العرب غير المكرمات
إن يوماً تجرح الضاد به ** هو والله لنا يوم الممات
أيها العرب إذا ضاقت بكم ** مدن الشرق لهول العاديات
فاحذروا أن تخسروا الضاد ولو ** دحرجوكم معها في الفلوات

إذاً فللغة أهمية بالغة في تركيب ثقافة ما، فإنَّ شعباً بلا لغة هو بمثابة شعب بلا ثقافة، وللمترجم الدور الهام على هذا الصعيد من خلال تفعيل عملية التثاقف والاندماج الإيجابي بين الحضارات.

والثقافة تقوم أساساً على النموذج الألسني، وقد اعتبرَ ليفي شتراوس أنَّ اللسان أو اللهجة من أبرز مكونات الثقافة؛ لذلكَ يمكن القول أنَّ المترجمين هم من أوائل العناصر المقرّبة بين الثقافات.

رابعاً: إن اختياري لفرع الترجمة يكمن وراءه حلم عظيم وجليل، ألا وهو إعادة الحنين إلى نفوس المغتربين والمهاجرين، ففي زمن أصبح فيه الوطن سبباً للهجرة أريد تحويله من خلال القلم والورقة إلى لبنان الحلم، لبنان جبران خليل جبران ولبنان ميخائيل نعيمه، بحيث أن ترك الوطن هو عبارة عن طعن الأم بالظهر وترك الأب مريضاً بلا أي سند، فيجب على المهاجر أن يشعر بالذنب والندم لترك أرض الآباء والأجداد.

إن هذه الرسالة أريد أن تصل بطريقة أو بأخرى من خلال ترجمة الأعمال التي تبث الحنين في نفوس المهاجرين.

ولي وطن آليت أن لا أبيعه ** وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
وحب أوطان الرجال إليهم ** مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ** عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
(ابن الرومي)

خامساً: إن العقل والفكر من أبرز الدوافع لهذا الاختيار، فمع الأسف، فإن شبابنا اليوم قد تشرّبَ عنصر المادية وأصبحت تجري في عروقه، فنرى أن أكثرية الشباب يتجه نحو الفروع التي تدر المال ويقوم بإهمال الفروع الفكرية والأدبية والثقافية، وهي التي تدر المعرفة والتقدير وحتى المال؛ لذلك ترسخت في ذهني قناعة بأن هذا الفرع العظيم الذي لا يمكن اختصاره بكلمتين من الجيد التعرف عليه أكثر والتبحر في معانيه الإنسانية القيمة.

سادساً: إن الميل قد كان له أثر بالغ في هذا الاختيار، فمنذ الطفولة كنتُ أحب قراءة القصص والكتب وكتابة المذكرات وكل ما يشحذ نفسي بالمشاعر الجياشة، فإن هذا الميل الروحي الأدبي الفكري قد تبلور في اختيار هذا الفرع.

إن الترجمة هي أضواء تشرق من قلوب الأنبياء وصدور الأوصياء وأدمغة العلماء والأدباء، ما أحوج عصرنا إلى مثل هذا المجال النفيس، وما أحوج مكتبتنا إلى مثل هذا الحصاد الإنساني والأدبي الفريد.

تجارب عصور وأجيال في صحائف، فلا تجعلوا عنصراً من عناصر تراث هذا الوطن يضيع كما ضاعت الكثير من العناصر بسبب الجشع الإنساني والطمع والمادية.

ولا بد هنا من التوقف عند حادثة تكون خير دليل، حينما كان "سنكلر لويس" طالباً في جامعة "بيل" قال لأحد أساتذته: إن أعز أمنية عندي هي أن أصبح مترجماً، فقال له الأستاذ: ولكنك سوف تكون فقيراً لو تحققت أمنيتك هذه! فقال سنكلر: لن يهمني ذلك يا سيدي، فأجابه الأستاذ وهو يربت على كتفيه: إذن سوف تكون مترجماً ناجحاً يا بني!

سابعاً: إن مدينة بيروت التي تعتبر أم الشرائع، ومهد الحرف والكلمة، وعاصمة الثقافة العالمية، وموطن الأنبياء والعظماء والثوار والقادة وجامعة للدول العربية والأجنبية، هذا الوطن الغني بتراثه وثقافته وفكره يعيش اليوم حالة انحطاط أدبي وفكري وهو غارق في نوم الجاهلية والتخلف، وإن كل أمجاد الماضي تكاد تدمر، فنرى عملية عصرنة اللغة العربية، فبعد عدة عقود قد نرى اللغة العربية أصبحت من التراث اللبناني، لذلك قررت اختيار هذا الفرع للمساهمة في إعادة إحياء لغة "الضاد"، هذه اللغة العصية على الموت.

أخيراً، تعددت الأسباب التي تتمثل في مجاري الأنهار والمصب واحد، أي "الترجمة".

يقول تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"، إن الله أمر الناس بالتعارف والتواصل والانفتاح، وربما أرسل المترجم ليكون همزة الوصل هذه، وفي النهاية يقول الإمام علي: "المرء بأصغرَيه: قلبه ولسانه".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد