عندما جئت إلى هذه الحياة، كنت أنا الحفيدة الأولى لعائلة طافش، وأبو حسين أيضاً؛ عائلة والدتي ووالدي، لربما كان ذلك الشيء الأكثر حظاً الذي صادفني حتى الآن، فلقد أخذت في قلوب العائلتين منزلة كبيرة وواسعة ما زالت تكبر يوماً بعد يوم، وأذكر كم كانت جدتي (والدة أمي) تغضب من إخوتي أحياناً وتنهرهم، ولكنها لم تكن تفعل معي هذا حتى وإن أخطأت؛ لأن حبها الكبير لي كان يمنعها عن ذلك.
كان جدي (والد أمي) رحمه الله، حاد الطباع، إلا أنه كان معي لطيفاً حنوناً لين المعاملة، وكان يقطن أيضاً بالأردن، ولكنني عندما بلغت عامي الثاني قررت دار جدي الرحيل إلى فلسطين مسقط رأسهم، بعد أن ضاقت عليهم الحياة هنا، فلا مكان أكثر حناناً من الوطن، وبالفعل رحلوا إلى فلسطين جميعهم، لا أعلم بالضبط ما الذي قام به جدي حتى أُطلق عليه اسم (مخالف) ولم يصبح بمقدوره المجيء إلى الأردن، وأيضاً والدتي أضاعت تصريحها فلم يعد بإمكانها الذهاب إلى فلسطين، واحتجز كل منهما في بلد يفصلهما جسر يحرسه الصهاينة!
منذ ذلك الوقت لم أرَ جدي، ولكنه ظل يحتفظ لي بمقدار الحب ذاته، ويطلب صوري على الدوام، فنبعث بها إليه مع أي كان يجيء من فلسطين زيارة ويعود بها إليه، وكان قد قام بتكبير صورة لي علقها في غرفة نومه، لا تزال هناك منذ ثمانية عشر عاماً مضت.
مضت بنا الأيام وكبرت أنا على مسمع تلك القصص التي كان يرويها أهلي على مسامعي، وعن مقدار حب جدي الكبير لي ولهفته لرؤيتي، وكبر معي حزن وحقد كبيران على هذا القدر الذي فرق بيني وبين عائلة أمي.
وعندما كبرت وبلغت الثامنة عشرة من عمري، قررت أن أحقق حلم جدي في فلسطين وأجعله يراني على شاشة كبيرة! لم أكن أعرف كيف سأفعل ذلك ولكنني قررته فقط!
ومن منطلق أؤمن به دوماً وأبداً أننا إذا أردنا شيئاً بشدة ستتعاون جميع ظروف الحياة لتحقيقه لنا. سمعت بالصدفة خالي (شقيق والدتي) يتحدث مع أمي عن مذيعة قامت بمكالمته هاتفياً وطلبت منه أن تقوم بلقاء مع شركتهم، فما كان مني إلا أن أطلب رقمها منه، استهجن طلبي ولكنه أعطاني إياه موقناً أنني أعلم ما سأفعل.
قمت بمكالمتها هاتفياً، مذيعة على إحدى القنوات الفضائية التي تهتم بالقضايا الفلسطينية تقدم برنامجاً يومياً مباشراً على الهواء يتم بثه من عمان – الأردن، عرفتها بنفسي وطلبت منها ببساطة أن أظهر على التلفاز!
تفاجأت من طلبي، ولكنها سرعان ما سألتني، وعن ماذا ستتحدثين؟
صمتّ لبرهة من الوقت ثم أجبتها: عن العمارة في فلسطين!
إذ كانت تلك السنة أول سنة لي في الجامعة بتخصص الهندسة المعمارية، فتحمست جداً للموضوع، وسألتني أحقاً ستتحدثين عن العمارة الفلسطينية؟
أجبتها: أجل صدقيني سأقدم لك حلقة ثرية ولن تندمي!
وببساطة تامة قبلت مطلبي وحددت لي لقاء خلال الأسبوع القادم!
أنهيت المكالمة وشردت لوهلة؛ قلت لنفسي: يا إلهي أنا لا أعرف أي شيء عن العمارة الفلسطينية، وأمامي أسبوع واحد فقط؛ لأقوم بتحضير محتوى يليق ببث مباشر سيعرض في بيت ليد -القرية التي يقطن فيها دار جدي في فلسطين.
قمت بالبحث في الإنترنت، وقمت بتحميل رسالة ماجستير لطالب فلسطيني يتكلم فيها عن التراث المعماري الفلسطيني وحفظتها تماماً، وقمت بتلخيصها، وألفت قصيدة بعنوان: في القدس خمسة عشر باباً تنادينا، حتى ألقيها في اللقاء، فلطالما عرف جدي بموهبتي بالتأليف، وكان يجعلني ألقي على مسامعه قصائدي في كل مكالمة هاتفية.
أخذت من والدي ما يقارب المائة دينار وقمت بشراء أجمل الملابس حتى أرتديها في يوم اللقاء، ومضى الأسبوع سريعاً.
في ذلك اليوم قمت بالاتصال على فلسطين، وأخبرتهم أن يضعوا لجدي على تلفازه في (البقالة) على المحطة التي سأظهر عليها، وأن يخبروه أنني سأظهر في بث مباشر، وأنني فعلت هذا لأجله فقط.
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.