بصراحة، لم أحتفل بعيد ميلادي أبداً، ليس لأنه غير معروف فقط، ولكن أيضاً هذه العادة ليست ممارسة في بلدي إلا للقلة.
ولكنني شاركت مرات عدة في حفلات خاصة أقامها أصدقائي خارج البلاد بمناسبة عيد ميلادهم.
ومنذ انضمامي إلى ما يسمى بالسوشيال ميديا، أو وسائل التواصل الاجتماعي قبل نحو عشر سنوات، أتلقى في مثل هذه الأيام تذكيراً بعيد ميلادي "الافتراضي" وتهاني من أصدقائي والمتابعين لصفحتي على الفيسبوك تحديداً، وأشكرهم على ذلك.
وبدلاً عن عيد ميلادي الافتراضي (وقصته ترد في آخر المقالة) سأروي للقراء اليوم قصة ظروف ميلادي التي أراها غير استثنائية، ولكنها قد تلقي الضوء على بدايات حياتي وحياة جيلي، وكلها منقولة من والديّ وأهلي ومن شاهدوا هذا الحدث.
المكان هو بادية وسط الصومال من جهة البحر، حوالي 400 كم شمال شرق العاصمة مقديشو. الزمان هو نهاية الصيف القائظ وبدايات موسم المطر الذي هطل في بعض المناطق البعيدة، لكنه لم يصل إلى مرابعنا بعد.
كانت أسرتي مقسمة بين الزراعة الموسمية والرعي المتنقل، والدتي كانت هذه المرة مع مواشي الأسرة فيما كان الوالد يتنقل بين المزرعة والقرية وبئر الماء البعيدة، حيث كان يجلب الماء على ظهر جمال كانت تملكها الأسرة إلى خيمتنا (البيت البدوي في الصومال مصنوع من الحصير الذي تصنعه النساء وتنصب بواسطة العيدان التي يجلبها الرجال من الغابة ويحمل علي ظهر الجمال عند الارتحال) ويرتاح ليلة واحدة ثم ينقل الباقي إلى المزرعة؛ حيث باقي الأطفال مع عمي الشاب.
كنت الطفل الرابع في الأسرة، لكن أخي الأكبر مني توفي وهو صغير قبل ولادتي، ولذلك أصبحت الطفل الثالث، كانت أمي تشعر بثقل الحمل وهي ترعى الغنم في سفوح الجبال الرملية وبالقرب من جبل "بُرْدِيْر" Burdiir تحديداً، وتشعر بقرب الولادة، ولذلك كانت تضع سكين الحلاقة (أبو ثلاثة شقوق) في ضفائر شعرها تحت غطاء الرأس، تحسباً لأن تفاجئها الولادة وهي لوحدها مع القطيع؛ لكي تتمكن من قطع الحبل السري عن المولود إذا حدث ذلك.
لكن المحذور لم يقع، إذ جاءتها آلام الطلق عندما رجعت بالأغنام إلى الحظيرة قرب الخيمة، ونادت الداية (القابلة) المجربة (إحدى القريبات) التي ولّدتها بأمان. لم تكن هناك وسيلة لإبلاغ والدي بأن زوجته ولدت ذكراً، ولذلك جاء في اليوم التالي من المزرعة، وبدأ يضع ترتيبات استقبال المولود، فهذا حدث لا يخص الأسرة وحدها، وإنما العشيرة أيضاً.
ذهب والدي إلى القرية وجاء بفانوس، وهذه أول مرة يدخل الفانوس إلى خيمتنا، ولذلك لقبني نساء القرابة بـ"علي فينوس" (تحويراً لكلمة فانوس) هذا اللقب الجميل الذي اندثر للأسف بعد انتقالنا إلى المدينة بعد ذلك بسنوات.
وبدأ الاستعداد للوليمة، وكان والدي محظوظاً، حيث مرت على مرابعنا مجموعة من شيوخ العشيرة كانوا راجعين من زيارة لأحد وجهاء القبيلة الذي كان مريضاً لقراءة ختمة قرآن عليه والدعوة له بالشفاء، وهذا تقليد لا يزال ممارساً في البادية وفي بعض المدن أيضاً.
كان على أمي بمساعدة من القابلة أن تذبح وتطبخ للضيوف كبشين وباتوا عند الخيمية تلك الليلة ثم ارتحلوا بالصباح. وروت لي خالتي حكاية دعواتهم للمولود الجديد الذي هو أنا، وتقول إن بركة هذا الدعاء من قومك حلت فيك!
عودة إلى عيد ميلادي الافتراضي، فأنا ولدت في موسم المطر الذي جاء بعد عام الطاعون. وما أدراك ما هو عام الطاعون؟ اجتاح وباء الكوليرا تلك الأيام الصومال كله، وقتل الناس بالآلاف، أعقبه موسم أمطار غزيرة، كان ذلك نهايات عام 1972 أو بدايات عام 1973. نسيت الموضوع كله إلى أن احتجت إلى تحديد يوم ميلادي، ليس لغرض الاحتفال به، وإنما لعمل وثائق رسمية لي بعد الحرب الأهلية، أي بعد مولدي بخمس وعشرين سنة.
عدت إلى والدي ووالدتي وذاكرة أهلي الذين كانوا حاضرين يوم ولادتي، فاتفقوا على أن ميلادي كان موسم المطر الذي أعقب عام الطاعون، استقررت على يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني؛ لأن هذا اليوم هو الآخر ارتبط بذاكرتي البعيدة، عندما أدخلني والدي إلى الكتّاب "دُكْسي"، بقيت فيه يومين وفي اليوم الثالث تصادف يوم المعلم حسب العطلات الوطنية فأعطانا المعلم عطلة (أفتح) ورجعت إلى منزلنا أكاد أطير من الفرح، ولما سألني والدي قلت له "اليوم أفْتَح" أي عطلة.
جعلتُ 21 نوفمبر يوماً رسمياً لمولدي، وأثبته في جميع الوثائق الخاصة بي بعد ذلك وكذلك في بيانات أول بريد إلكتروني عملته، وجاءت السوشيال ميديا وأثبتّ يوم الميلاد فيها أيضاً، ولذلك يذكرني الفيسبوك وأخواته كل عام ويذكّر متابعيّ بهذه المناسبة، كل عام وأنتم بخير.
أضيف إلى هذه الذكريات ذكريات أخرى مكمّلة، قبل أن أكمل خمس سنوات، وبعد ميلاد أختي الصغرى، حلت سنة قحط شديدة أيضاً، أهلكت الزرع والمواشي، وقرر والدي الارتحال إلى الجنوب نحو العاصمة مقديشو، بما تبقى من قطعان المواشي قبل أن نموت جوعاً.
كنا نسافر مع قافلة من الأهالي الهاربين من القحط، وكنت على ظهر أحد الجمال مع عدد من صغار الماعز، بعد أن قطعت القافلة حوالي 150 كم، حدث ما لم يكن متوقعاً، إذ أصيبت أختي الصغرى بمرض الحصبة، واضطرت الأسرة للتوقف في مدينة عيل طير Ceeldheer لإدخالها المستشفى، على أن نواصل الارتحال.
مضت القافلة في طريقها باتجاه العاصمة وتركتنا وراءهم، فليس بمقدورهم الانتظار، فيما نصب والدي خيمتنا المحمولة على ظهور الجمال في أطراف المدينة على بعد نحو كيلومترين من المستشفى، ثم أصبت أنا وأخي وأختي الكبرى بالحصبة أيضاً، لكن حالتنا كانت خفيفة، ولذلك كان والدي يأخذنا إلى المستشفى كل صباح لتلقي العلاج ونعود إلى البيت/الخيمة.
تحسنت حالة أختي بعد فترة وانضمت إلينا في البيت، بدأنا نمارس حياتنا السابقة نرعى الأغنام، ومهمتي كانت تتبع صغار الماعز حول البيت وإرجاعها إلى الحظيرة قبل المغرب، حتى لا ترضع أمهاتها قبل حلبها.
كانت معارف أبي قليلة في المدينة، ولكن أبناء القبيلة الكبيرة كانوا موجودين فيها بكثرة، فلما عرفوه رحبوا به ودعموه بشيء من المال ليدبر حياته ريثما يشفى الأولاد ويواصل رحلته نحو مقديشو.
في أحد الصباحات، أخبره أحد أبناء القبيلة بأن إدارة البلدية عندها فرصة للشباب للالتحاق بصفوف جهاز أمن "الطلائع" وهو جهاز استحدثته الحكومة العسكرية بقيادة سياد بري، وهي فرق شبه مدنية لكن لديها سلطة الاعتقال وجلب المطلوبين، وأحياناً تقوم بمهمات استخباراتية.
قرر أبي الالتحاق بالطلائع بغية أن يكون له مصدر دخل ثابت، لكن قرار رحلته إلى مقديشو لم يكن يفارقه، وكان ينتظر تحسن الحالة الصحية للأولاد. وبعد أيام اكتشفوا أنه يعرف مبادئ الحساب والكتابة باللغة الصومالية والإيطالية (والدي تخرج في إحدى المدارس الإيطالية في مقديشو قبل أن يعود إلى البادية بسبب ظروف جدي وجدتي).
تم نقله فوراً إلى البلدية التي كانت تعاني من نقص في الكوادر، وبمرتب أفضل. ومن هنا بدأ فصل جديد في حياتنا بعد أن قرر والدي البقاء في المدينة.
بدأت رحلة التحول من بدو رحّل إلى سكان مدينة فيها سلطة ومدرسة ومستشفى وحد أدنى من الخدمات، وتلك قصة أخري. عيد ميلادكم سعيد، افتراضياً كان أم حقيقياً، وكل عام وأنتم بخير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.