"خُذي ما يكفي شنطة واحدة، الطريق طويلة، وزوجك سيشتري لك ملابس من الإمارات"، هكذا أوصت أم سارة ابنتها، التي رفضت الكشف عن اسمها كاملاً لأسباب أمنية؛ خوفاً من منعها من السفر على معبر رفح.
سارة ذات الـ25 عاماً، كان قد تمت خطبتها من شاب فلسطيني يعمل في الإمارات قبل عام من الآن، وحاولت مرات عديدة الخروج له عبر معبر رفح ضمن كشوف المسافرين التي تعرضها وزارة الداخلية الفلسطينية، كلما أعلن المصريون فتح المعبر، لكنها فشلت، فاضطرت إلى عقد حفل زفافها في غزة، لتصبح زوجة رسمية في غياب زوجها الذي ينتظرها في الإمارات.
استبشرت سارة خيراً بالمصالحة، فحزمت أمتعتها، وانتظرت دورها كباقي المسافرين بعد الإعلان عن فتح المعبر 3 أيام، لكنها لم تخرج، مما اضطر زوجها إلى الاتصال بأحد الوسطاء للتنسيق معهم عبر المعبر، وذلك مقابل مبلغ مالي وصل إلى 3000 دولار له مقابل خروج زوجته في اليوم الثالث والأخير، لكنها لم تخرج.
ما قصة الوسطاء والتنسيقات والمبالغ المالية؟
الوسيط هو شخص من غزة يتواصل مع ضابط أمن مصري برتبة عقيد أو أكثر في القاهرة مرتبط بملف المعبر وعبور المواطنين؛ إذ يرسل له الأسماء والأموال، ثم يجهز الضابط الكشوفات ويرسلها إلى معبر رفح، فيما تُعرف بكشوفات "التنسيقات"، ويرسل الموظفون المصريون في معبر رفح الأسماء للجانب الفلسطيني، الذي بدوره يجهز الأسماء في الباصات ويدخل المسافرين إلى الجانب المصري.
في السابق، كانت "حماس" ترفض إدخال كشوف التنسيقات حتى يتم إدخال كشوفات المسافرين المسجلين في وزارة الداخلية، كورقة ضغط بالمناصفة، لكن ما حدث خلال فتح المعبر يوم السبت 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أن المصريين طلبوا مرور المقيدين في كشوفات التنسيقات فقط دون المسجلين بالداخلية؛ مما دفع العاملين في معبر رفح بالجانب الفلسطيني إلى الضغط لإدخال كشوفات الداخلية، لكن المصريين أغلقوا المعبر بالكامل ورفضوا التمديد.
سارة دفعت 3000 دولار، بينما دفعت إسراء التي تنتظر السفر منذ عام كامل أيضاً مبلغ 4500 دولار من أجل عبورها مع زوجها وابنها، لكن الجميع لم يمر كما لم تعد الأموال، فقد أخذها ضابط الأمن، قائلاً: "الفلوس اندفعت والمعبر أغلق، وعليهم أن يدفعوا مرة ثانية للتنسيق"، على حد تعبيرها.
وتقول إسراء، التي رفضت الكشف عن اسمها كاملاً، في تصريح لـ"عربي بوست"، إنها تداينت بمبلغ 4500 دولار من أجل دفعها للوسيط والتسجيل في الكشوفات، "لكن لم نسافر ولم نستطع استرداد المبلغ، باختصار تعرضنا لعملية نصب".
التنسيق يسرق أموال الناس
أحمد أبو رتيمة، الكاتب والناشط الفلسطيني، اعتبر التنسيقات على معبر رفح "جريمة حقيرة" يتم تعزيزها أكثر فأكثر كل يوم، حتى صار يخشى أن تحل إحلالاً كاملاً بدل الحق الطبيعي للإنسان في السفر.
وقال أبو رتيمة لـ"عربي بوست"، إن التنسيقات تعني أن من يدفع رشوة 3000 آلاف دولار يحق له السفر، أما الطلاب والمرضى من متوسطي الحال فهم محرومون من السفر؛ بل لا تحق لهم الحياة.
وأضاف: "تجاوُب الكثيرين مع هذا الواقع الفاسد شجع الجانب المصري على إطالة أمد إغلاق المعبر؛ لأنه كلما قلت فرص السفر الطبيعية زاد عدد التنسيقات".
وطالب أبو رتيمة برفع الصوت عالياً؛ لرفض جريمة التنسيقات بالكامل، مضيفاً: "جريمة التنسيقات تكاد تصل بنا إلى واقع احتكار السفر للراشين فقط"، وهؤلاء في نظره مشاركون في تعزيز واقع الحصار والموت المفروض على الناس، على حد تعبيره.
لا تقديرات دقيقة حول الأموال التي ذهبت لجيوب المنسقين المصريين الخاصة، لكن التقديرات تشير إلى 2.5 مليون دولار خلال يومين من فتح المعبر فقط، يتقاسمها العاملون في المعبر وتذهب النسبة الأكبر لجيب رجل الأمن.
تَواصل مراسل "عربي بوست" في غزة مع أحد الوسطاء؛ ليعرف خط سير المال، وضمانات السفر، فقال بعد تأكيد عدم ذكر اسمه: "أنا مجرد وسيط، أرفع الأسماء للمصريين وأدفع الأموال عبر الحوالات المالية وآخذ نسبتي منها فقط".
يُذكر أن القيد في كشوف التنسيقيات يعني دخول الفلسطينيين للصالة المصرية فقط من المعبر وليس دخول مصر، وكثير منهم يركب في باص الترحيلات المعد خصيصاً للمسافرين الفلسطينيين من معبر رفح لمطار القاهرة، كما أن الوسيط غير مسؤول عن عملية إعادة موظفي الصالة أياً من أصحاب التنسيقيات إن كان اسمه مدرجاً في كشوفات المنع.
مصالح الناس تتوقف على وعودات المصالحة
تصف مراسلة "قناة الجزيرة مباشر"، غالية حمد، في اتصال مع "عربي بوست"، مشهد صالة "أبو يوسف النجار" في مدينة خانيونس والتي منها تنطلق باصات المسافرين لمعبر رفح، فتقول: "في محيط الصالة التي هي ملعب قديم، اتخذ الجميع من حقائبهم مقعداً على الأرض المبللة بالوحل، رأيتهم بعد انتظار استمر يوماً أو أكثر، كانت أعينهم تدور بالمكان في حسرة وقهر، أرهقهم الجوع وقلة النوم وانعدام الراحة".
وأضافت أن من بين ما لفت انتباهها، شاحنة نقل كبيرة تتفيأ في ظلها عائلة مكونة من أم وأطفالها الأربعة دون سن العاشرة، فقدوا إقامتهم في دولة عربية بسبب تأخر فتح المعبر ولا سبيل لها إلا المجازفة بالذهاب؛ أملاً في استعادة حقهم بالحياة والعمل هناك، كانت الطفلة الصغيرة تبكي قائلة لأمها: "تعبت من النوم على الرمل".
سمعت غالية، الأمَّ وهي تقول لضابط الشرطة الفلسطيني: "نريد أن نسافر، والله لو معنا أموال لندفع 3000 دولار عن كل منا، ما تعرضنا لمثل هذه البهدلة".
وكانت حركة فتح وعدت برفع العقوبات التي فرضها الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن غزة، وتُسلَّم الحكومة أعمالها خلال ساعات من حل اللجنة الإدارية التي تشكلها "حماس"؛ إذ جاء على لسان عزام الأحمد، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، يوم 3 أغسطس/آب 2017: "على حماس أن تحل اللجنة الإدارية، التي أشبه بحكومة ظل، بعدها بساعات ستتسلم حكومة الوفاق إدارة غزة بشكل طبيعي كما هي في الضفة".
إلا أن "حماس" حلت اللجنة الإدارية وما زالت العقوبات التي يفرضها الرئيس عباس على غزة مستمرة، إضافة لاستمرار إغلاق معبر رفح بشكل كامل، حيث وعدت مصر بفتح معبر رفح بالكامل منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، لكن ذلك لم يحدث، ولم يسافر إلا أصحاب التنسيقات في فتح المعبر مدة 3 أيام ابتداءً من يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني، في الوقت الذي سلمت فيه "حماس" إدارة المعبر للسلطة بالكامل.
كثير من سكان غزة لا يملكون المال لعمل تنسيق مصري للسفر، فمبلغ 3000 دولار كبير بالنسبة لمنطقة تعاني أكبر نسبة بطالة في العالم، 60%، واقتصاد على حافة الانهيار حسب احصائيات البنك الدولي.
ولكن، يبدو أن المعادلة التي يريد تثبيتها المصريون "ادفع حتى تسافر"، والناس في غزة تنتظر أن تمنح المصالحة قارب النجاة لمتضرري الحصار، في ظل غياب واضح لدور السلطة على معابر القطاع للتخفيف من معاناة الناس.