قال خبيران بارزان إنَّ هناك عدداً كبيراً من شبهات التزييف تحوم حول قِطَعٍ من مخطوطات البحر الميت التي تضم نصوصاً عبرية قديمة مرتبطة بفترة نشأة المسيحية، مرجحين أن التجارة في هذه القطع التي تقدر بعدة ملايين من الدولارات أصبحت مدفوعةً باهتمامٍ متزايد من أثرياء إنجيليين في الولايات المتحدة.
ونقلت صحيفة الغارديان البريطانية عن أحد الخبيرين إنَّ المشكلة في غاية الخطورة لدرجة أنَّ نسبة القطع التي قد تكون مُزيَّفةً من الـ75 قطعة التى بيعت منذ عام 2002 تصل إلى 90%. وقال الخبير الآخر إنَّ شبهة التزييف قد تطال ست قطعٍ من الـ13 قطعة التي اشتراها ستيف غرين صاحب سلسلة متاجر الفنون والحِرَف الأميركية التي تحمل اسم هوبي لوبي.
وتُعَد الإحصاءات المتعلقة بهذه المبيعات الخاصة مُثيرةً للدهشة، إذ يُمكن بيع كل قطعةٍ من المخطوطات مقابل أكثر من مليون دولار.
ما مخطوطات البحر الميت؟
عزَّز اكتشاف المخطوطات الذي تمَّ في منتصف القرن الماضي دراسة النسخة الأولى من الكتاب المُقدَّس.
وتشمل المخطوطات، التي كُتِب معظمها باللغة العبرية ويرجع تاريخها بنسبةٍ كبيرةٍ إلى الفترة ما بين القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي، أجزاءً من الكتاب المقدس العبري أقدم بألف سنةٍ من أي نسخةٍ معروفة سابقاً.
ومن وجهة نظرٍ أكاديمية بحتة، أحدثت المخطوطات طفرةً في فهم ممارسات ومعتقدات الفترة اليهودية الحاخامية التي انبثقت منها المسيحية الأولى.
ويُذكَر أنَّ رعاةً من البدو قد عثروا على أواني تحوي المخطوطات الأولى في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وظناً منهم أنَّ قيمة اكتشافهم زهيدة، باعوا قطعاً منه لإسكافي فلسطيني مسيحي يعمل في تجارة التُحف كمهنةٍ ثانوية ويُدعى خليل إسكندر شاهين المُلقَّب بكاندو.
وعلى مدار سنوات، اعتُبِرَت العلاقة بين أسرة كاندو والمخطوطات هي ختم الأصالة، ولا سيما في تجارةٍ تعُجُّ بخبراء مُحنَّكين، ووسطاء مراوغين.
وشهدت أوائل العقد الأول من القرن الحالي انتشار العشرات من القطع الجديدة في السوق بعدما فتح ويليام، نجل كاندو، قبواً خاصاً بأسرته في مدينة زيورخ السويسرية.
سوق حديثة ومشكلات جديدة
في الوقت نفسه تقريباً، ظهر جيلٌ جديدٌ من المشترين الإنجيليين في الولايات المتحدة الشغوفين بالأشياء المتعلقة بزمن المسيح، وأبرزهم ستيف غرين.
وكانت أسرته المنتمية إلى مسيحيِّي ولاية تكساس المتدينين والمحافظين الاجتماعيين منهمكةً في شراء مقتنياتٍ باسم هوبي لوبي لتجهيز متحف الكتاب المقدس الذي افتُتِح في العاصمة الأميركية واشنطن يوم الجمعة، 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، بتمويلٍ من غرين.
ولا يُمثِّل المال غايةً في سعيهم لجمع التحُف الذي عرَّضهم للمساءلة أمام وزارة العدل الأميركية من قبل. إذ شهد شهر يوليو/تموز 2017 تسويةً بين شركة هوبي لوبي ومدَّعين عامين فيدراليين وافقت فيها الشركة على مصادرة 5500 قطعةٍ أثرية مستوردة بطريقةٍ غير شرعية من العراق كانت قد اشترتها من تاجرٍ في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2010.
وذكرت شركة هوبي لوبي في بيانٍ رسمي آنذاك: "كان يتعيَّن علينا إجراء مزيدٍ من الرقابة والبحث بعنايةٍ عن كيفية انتقال هذه المقتنيات من يدٍ لأخرى".
يتركز الاهتمام الإنجيلي بالمخطوطات على النصوص المقطوعة من الكتاب المقدس العبري. إذ يقول كيب ديفيس الزميل في معهد مخطوطات البحر الميت بجامعة ترينيتي الغربية: "هناك شعورٌ بأنَّ قِطَع الكتاب المقدس تُقرِّبك لتصير جزءاً من شيء قريبٍ من الله ويسوع وتلمس ذلك الشيء وتُجرِّبه".
جديرٌ بالذكر أنَّ فريق منشورات متحف الكتاب المُقدَّس طلب من ديفيس الانضمام إلى فريقٍ مُشارك في فحص 13 قطعةً اشتراها غرين.
وقال ديفيس: "ثمة طيفٌ للأصالة في القطع، مرجحاً أن تكون ستَّ قطعٍ من القطع التي اشترتها أسرة غرين مزورة. ولكنه استدرك قائلاً: في هذه المرحلة، وبسبب عدم معرفة مصدر القطع الأصلي، هناك احتمالٌ أن تكون كلها مزيفة".
وأضاف ديفيس أنَّ الكتابة اليدوية ومحتوى النصوص نفسهما كانا بمثابةِ علاماتِ تحذيرٍ في القِطَع التي ظهرت بعد عام 2002، وهو الرأي الذي أيَّده كذلك أرشتاين جاستنس خبير المخطوطات الآخر الذي يعمل في جامعة أغدر بمدينة كريستيانساند النرويجية.
وقال جاستنس: "يمكنك رؤية أنَّ اليد (في القطع المشتبه في أنَّها مزيَّفة) مرتعشةً أو مُقلِّدة. إنها ليست يد خطَّاط، بل يد ساذجة، أو ربما عدة أياد".
وأضاف: "تكمن المشكلة الأخرى في أنَّ عدة قِطَع تبدو وكأنها ليست قطعاً أصليةً من إحدى المخطوطات. إذ يبدو أنَّ الحروف كُتِبت بخطٍ أصغر عن عمدٍ لتلائم حافة القطعة".
ولاحظ جاستنس شذوذاً مُحيِّراً آخر، وهو أنَّ نسبة القطع المأخوذة من الكتاب المُقدَّس التي ظهرت في السوق منذ عام 2002 قفزت من نحو 25% إلى 86%. ويعتقد جاستنس أنَّ هذا التناقض يُشير إلى أنَّ هناك شخصاً يُنتِج نسخاً طبق الأصل من القطع التي يسعى المشترون الإنجيليون لشرائها.
وحاولت صحيفة الغارديان البريطانية الاتصال بغرين للتحدث عن المخاوف التي أثارها جاستنس وديفيس ولكنَّها لم تتلق أي رد.
صدمة
ومما عزَّز الشكوك المثارة حول قِطَع مخطوطات غرين هو الفحص المادي الذي أجرِي على قطعٍ أخرى اشترتها مجموعةٌ أخرى في أثناء الفترة نفسها.
وطُلِب من دافيس وجاستنس وعدة باحثين آخرين، بمن فيهم بعض الباحثين من المعهد الاتحادي لبحوث المواد والاختبار في العاصمة الألمانية برلين، فحص القِطَع التي يمتلكها جامع التحف النرويجي مارتن شوين (أحد مشتري القطع ) لوضعها في كتابٍ بأحد المعارض.
ثم نشروا النتائج التي توصَّلوا إليها في مجلة Dead Sea Discoveries أو اكتشافات البحر الميت، فجاءت النتائج صادمة.
ففي إحدى القطع، كانت الترسُّبات التي يجب أن تظهر على السطح واضحةً تحت الحبر. وكانت هناك قطعةٌ أخرى تبدو مرشوشةً بحبيبات ملح طعامٍ حديث. وكانت إحدى الحبيبات مُلطَّخةً بوضوحٍ بالحبر الموجود تحتها البالغ من العمر 2000 عام، مما يجعل احتمال أن تكون القطعة أصلية مستحيلاً.
وجديرٌ بالذكر أنَّ شوين بدا موافقاً في أحد التصريحات في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2017 على أنَّ نسبة القطع المُزيَّفة تبلغ "15%" من القطع المتداولة مؤخراً، بما في ذلك القطع التي يمتلكها. بيد أنَّه أدلى مؤخراً بتصريحٍ آخر إلى الغارديان شكَّك من خلاله في صحة الحبر المستخدم في فحص القِطَع.
إذ قال: "اعتمدَ ترجيح زيف القطع على احتمالية أن يكون الحبر حديثاً. ومع ذلك، لا يمُكن إجراء فحص الكربون المُشع (كربون-14) لمعرفة تاريخ الحبر على قِطَعٍ صغيرةٍ كهذه. ولا يتوافر حبرٌ كافٍ لإجراء اختبارٍ ذي دلالةٍ إحصائية، بالإضافة إلى أنَّ عينة الحبر ستكون ملوَّثةً بسبب المخطوطة وترسُّباتها".
وأضاف: "لذلك، لا يعتمد التكهن باحتمالية زيف هذه القطع إلا على تفسير علم الخطاطة والنصوص".
كلهم مصدرهم واحد
قال جاستنس لمجموعةٍ من الباحثين في برلين في العام الجاري، 2017، إنَّه منذ عام 2002 "ظهرت أكثر من 75 قطعةٍ من قطع مخطوطات البحر الميت، التي كانت مجهولة من قبل، في سوق التحف. وترتبط جميع القطع تقريباً بويليام كاندو، سواءٌ بعلاقةٍ مباشرة أو غير مباشرة".
وأضاف: "لماذا تعُد علاقة كاندو بالقِطَع في غاية الأهمية؟ لأنَّه من الناحية العملية، لطالما كانت علاقة القِطَع بأسرة كاندو هي الطريقة الوحيدة التي تُتيح مُسوِّغاً لإدخال قِطَعٍ جديدة في مجموعة البيانات الأكاديمية على مدار الخمسين عاماً التي أعقبت اكتشاف آخر مخطوطات البحر الميت".
جديرٌ بالذكر أنَّ أسرة غرين لم تكشف عن مصدر القطع الـ13 التي اشترتها، بيد أنَّ صحيفة الغارديان أكدت أنَّ الأسرة اشترت نحو نصف القطع من ويليام كاندو، وأنَّ ستيف غرين زار قبو أسرة كاندو في زيورخ لمعاينة القطع.
واشترى شوين قِطَعه كذلك من ويليام كاندو، أو بمساعدته، كما فعلت دوروثي باترسون التي اشترت بعض قطع المخطوطات لجامعة ساوث ويست بابتيست في ولاية ميزروي الأميركية.
وتتسم دوروثي بتحفُّظٍ أقل من المشترين الرئيسيين الآخرين في الآونة الأخيرة، ولا تزال مقتنعةً بأنَّ القطع التي اشترتها أصلية. بيد أنَّ حديثها سلَّط الضوء على جوانب رئيسية لتجارة القطع في الآونة الأخيرة، ولا سيما طبيعتها المُغرِضة للغاية.
وقالت دوروثي لصحيفة الغارديان إنَّها عرفت أسرة كاندو لسنواتٍ عديدة، بما في ذلك كاندو الأكبر، الذي التقت به لأول مرة في أثناء قيادة جولات سياحية دينية إلى الأراضي المقدسة.
وقبل سبع سنوات في أثناء زيارتها لمتجر ويليام كاندو، طرح ويليام موضوع بيع بعض القطع لها لأول مرة. وقالت: "كنَّا في المتجر.. حين ناداني ويليام جانباً وقال لي: "دوروثي، قررت الأسرة بيع بعض القِطَع المتبقية لدينا".
ونظراً إلى انعدام خبرة دوروثي، استشارت خبراء وجمعت الأموال اللازمة قبل استدعائها إلى لقاءٍ مع كاندو في زيورخ.
وقالت دوروثي: "كان الموظف البنكي الخاص بويليام كاندو موجوداً هناك. ثم أخرجا القِطَع كي أرى حالتها وجميع التفاصيل الأخرى".
وعاينت دوروثي القطعة التي كانت تنوي شراءها بفضل قائمةٍ مرجعيةٍ قالت إنَّها حصلت عليها من أحد الخبراء، وكانت هذه طريقة غير عادية للتحقق من الأصالة في عملية شراءٍ كبيرة في مجالٍ خارج خبرات أحد الباحثين.
وأضافت: "كانت المُذكِّرات التي حصلت عليها معي، وكان بإمكاني التحقق من كل شيء".
وأصرت دوروثي على أنَّ علاقة كاندو بالقِطَع هي التي أقنعتها بأصالتها. وقالت: "كاندو الأكبر هو الشخص الأكثر حصولاً على مخطوطاتٍ من كهوف وادي قمران. وكان البدو يقصدونه لأنَّه كان تاجراً في بيت لحم، وكانوا يثقون به. لذلك، فهو الشخص الأكثر حصولاً على المخطوطات".
في متجر ويليام كاندو
وفي متجره بالقدس الشرقية، نفى ويليام كاندو احتمالية زيف أيٍّ من القطع المرتبطة به، سواءٌ بعلاقة مباشرة أو عن طريق وسطاء، أو حتى جهله بها نفياً قاطعاً.
ووصف الباحثين الذين شككوا في أصالة القِطَع بأنَّهم "اغبياء"، ورجَّح وجود دوافع خبيثة لديهم.
وقال كاندو في البداية أنَّه لن يتحدث عن المال. ولكنَّه قال بعد ذلك إنَّه باع سبع قِطَعٍ لستيف غرين، وادَّعى أنَّ غرين عرض عليه 40 مليون دولار في أثناء تناول العشاء في إحدى المرات بسويسرا مقابل قطعةٍ واحدةٍ محفوظةٍ في القبو الواقع في زيورخ. وقال كاندو كذلك إنَّه باع قِطعاً لشوين.
وأصرَّ كاندو على رأيه قائلاً: "من المستحيل أن نكون قد خُدِعنا. فهذه القِطَع أصلية بنسبة 100%. إنَّه حقدٌ بيِّن".
الحل في القبو
وذكر كاندو أنَّه اشترى القطع الموجودة في قبو زيورخ من عائلة أحد أقربائه في لبنان.
وقال: "عثر عليها أستاذ جامعي في أحد الصناديق وفحصها من أجل والدي. كان ذلك في عام 1966. ثم حفظ والدي الصندوق مع أحد أبناء أعمامي في لبنان، وبعد ذلك سافر ابن عمي إلى أوروبا حين بدأت الحرب الأهلية في لبنان".
وأضاف: "بعد وفاة والدي وابن عمي كذلك، أعطينا أسرته المال واستعدنا جميع القِطَع من الصندوق وحفظناها في سويسرا. أعتقد أنَّ هناك 28 قطعةً متبقيةً هناك".
ورفض كاندو الإجابة حين سُئِل عن احتمالية تورَّط شخصٍ آخر في بيع قِطَع مُزيَّفة لعملاء مثل غرين وشوين.
وأجرى إيرا رابين، الخبير في الأحبار والمخطوطات بالمعهد الاتحادي لبحوث المواد واختبارها في برلين، بعض الاختبارات المادية على قِطَع شوين. وقال إنَّ هناك طريقةً واحدةً فقط لتبديد الشكوك.
وقال رابين: "يجب أن يكون ويليام كاندو صريحاً بشأن القبو الموجود في زيورخ. ويجب عليه فتح القبو وعرض محتوياته، وكشف ماهية القطع الموجودة في السوق".