وصف الجنة القبيح!

لماذا لم نستطع في أطروحاتنا الإسلامية عن وصف الجنة الانطلاق في فضاءات العقل لنتجاوز القوالب القديمة التي عفا عليها الزمن منذ مئات السنين، تماماً كما بهرنا الخيال العلمي في كسر كل الكليشيهات المعروفة؟ ألم يكن من الأولى لخطابنا أن يحلّق حرّاً متفرّداً كما أراد الله لنا؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/20 الساعة 04:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/20 الساعة 04:20 بتوقيت غرينتش

لمّا كان الإسلام الدين الخاتم لكل البشرية، صالحاً لكل زمان ومكان، كان لا بد لوصف الجنة، تلك التي ترخص من أجلها النفوس، وتشرئب إليها الأعناق، وتهفو نحوها الأرواح، أن يكون فيه متسع لكل البشر، بغض النظر عن تجاربهم السابقة وخلفياتهم المعرفية.
فنجد من وصف القرآن للجنة (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، (أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى).

فهل هذه الأوصاف هي تعبير عن واقع ما هو في الجنة بوصف حقيقي؟ أم أنه تصوير مجازي يخاطب عقول العرب تحديداً الذين نزل عليهم القرآن ليحاكي ما يحتاجونه بسبب ما يعيشونه من بداوة وخشونة في صحراء صفراء قاحلة؟ فهل لهذا السبب كان الحديث عن الأنهار والجنات وظلال الأشجار مسهباً؟!

يجتهد ابن خلدون في مقدمته بوصف العرب بأنهم من أصعب الأمم انقياداً وأكثرها توحشاً وبوهيمية، فنزل القرآن عليهم ليهذّبهم، فوعدهم الله بالجنة، وفيها ما يحلمون به ولا يجدونه، فيما هو محض خيال بعيد المنال.

فنجد التركيز على شرح واستنباط الوصف عن الجنة ترغيباً هو ذاته الذي احتاجه العرب قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام.

وفي وصف القرآن للترف الذي ينعم به أهل الجنة نجد أوصافاً من قبيل: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) و(يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ) في (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ).

لكنّ سؤالاً يستحق التفكر أن هل هذه الأوصاف للجنة تمثل وصفاً لجائزة فعلاً من منظور من يعيشون في جنان الله في الأرض في الدنيا فيتنعمون بالطعام والشراب والخضرة والأنهار والخدم والبيوت الفارهة؟ هل تخاطب هذه الأوصاف عقول هؤلاء؟ هل تغريهم؟ مهما كان النعيم في الجنة من هذه الطبيعة مضاعفاً وغير محدود.

وهل يقصد القرآن في الإشارة إلى تحول الممنوعات على المسلم إلى مسموحات في الجنة كالخمر والزواج بمئات النساء أو استخدام الذهب والحرير، تحفيزاً للمسلمين على الصبر على ما يشتهون في الدنيا في مقابل إشباع لا محدود لهذه الشهوات في الجنة؟

تماماً كما يعد الأب طفلاً صغيراً بأنه سيسمح له بالممنوعات إن كان مطيعاً في عدم اقترافها ذاتها؟ وفي هذا نقض للغاية من المنع وسببه، أم أن جوهر المقصود أن خمر الجنة وذهبها وحريرها ونساءها ليس فيها العلل التي حرمت من أجلها هذه النعم في الدنيا؟

لنصل إلى أكثر وصف الجنة شرحاً وإسهاباً وهن الحور العين، فمن منا معشر النساء لم تحضر جلسة دينية عن وصف الجنة ترغيباً بها؛ لتتساءَل: لماذا يتم الحديث عن الحور العين ونعيم الرجال في الجنس في الجنة دوناً عن النساء؟ لتسمع إجابات من قبيل أن طبيعة النساء الحياء، ولهذا فإن الله لا يشوقهن للجنة بما يستحين منه، بينما نجد في القرآن الآيات الواضحة التي تتحدث عن الجماع والطمث، رغماً عن الحياء، فهل من دلالة واضحة لذلك؟

ويتبع هذا التبرير ذكر أن شوق المرأة للرجال ليس كشوق الرجال للنساء، دون أي دليل علمي، ثم يتشدق بعض المتنورين بأنّ موضوع التنعُّم بالحور العين هو نوع من النّعيم المشترك بين الرجال والنّساء من أهل الجنّة؛ تماماً كأيِّ نوعٍ آخر من النّعيم الذي يجده أهل الجنّة فيها؛ وذلك لأنّ الحور العين في الأصل هُنّ المؤمنات من أهل الجنّة، بل إنّ الله أعدّ لهُنّ باقي الحور العين من نساء الجنّة كوصيفات لهُنّ، يَقمن على خدمتهن وتهيئَتهن لأزواجهن.

إذاً هل لنا أن نتساءل لماذا لم يتم الحديث عن فحولة الرجال وبهاء صورتهم في الجنة لترغيب النساء بهم كما تم الحديث عن جمال الحور العين؟

ليحضرنا المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديث: (يدخلُ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ جُرْداً مُرْداً مُكحَّلين). فهل وصف الرجال بالجرد المرد المكحلين بدل الفحولة والرجولة يفي بهذا الغرض؟
لنعود إلى (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) و(فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) و(إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا)؛ لنجد العديد من الأحاديث على تفاوت درجة صحتها التي تشوّق الرجال إلى مضاعفة قوة الجماع للرجال في الجنة والعدد الكبير من الزوجات، وذكر الأبكار والعذارى في مشاهد عديدة، ومبالغة واضحة قد تؤدي إلى فهم مشوّه لطبيعة الجائزة التي وعد الله بها عباده.

ويأتي هذا كله في سياق ظالم للجنة، بوصف يركّز على الشهوات والإمتاع البصري أو الجسدي متجنباً التركيز على إمتاع العقل!

رغم أن الله ذكر في أكثر من موضع في كتابه الكريم أنه كرّم الإنسان بالعقل عن سائر المخلوقات، فأين نصيب العقل والنفس من المتعة في الجنة؟

وهل يمكن أن نلوم المفسّرين ورجال الدين على تركيزهم على الجوانب الشهوانية من نِعَم الجنة وقلة تركيزهم على ما يحققه من يدخل الجنة من متع عقلية ونفسية.

فكما يقر البشر بحاجاتهم الشهوانية يقرون بحاجتهم باللذة المعرفية، وإدراك المعقولات، وإنه كلما زاد إدراك الإنسان زادت سعادته حتى يصل إلى مرتبة كمال العقل؛ ليقترب من الله ويدرك لذة الشعور بكماله وجماله واطلاعه على كل الحقائق تمامًا كالملائكة، فهذه هي الجنة عند الفلاسفة وغايتهم القصوى وأسمى أمانيهم، أما النار فهو حرمان الإنسان من الاتصال برب العالمين، وبالتالي حرمان النفس من الاطلاع على كل الحقائق، وعدم وصولها إلى الكمال العقلي، فحينها تدرك تلك النفس بما سيفوتها من كمال العلم فتتعذب بتلك الحسرة.

وقد قال الإمام علي في دعاء جميل: (فهبني يا سيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟ وهبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟)، ويعني أن الابتعاد عن الله وفراقه أعظم عقوبة من عذابه المادي المحسوس، ويقابل رؤية أطباء علم النفس الذين قالوا إن السعادة والألم النفسيين أعظم وقعاً من السعادة والألم الماديين.

ثم نأتي لأرقى أوصاف الجنة من أنها فرصتنا للخلود الأبدي في (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) إلى رؤية الله في (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، بعد أن كنّا غيضاً من فيض، كقطرة تبخرت من المحيط لتعود إليه، كشعاع من نور هرع إلى الشمس ليحترق فيها، وكنفخة من روح الله في اتحادها مع الكل!

فهل من وصف ترغّب به إنساناً للجنة أجمل من (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)؟ تلك المتعة الفكرية والرقي الروحي والعقلي في الحديث ومجاورة أرقى الخلق وأشرفهم وأزكاهم، الذين اختارهم الله دوناً عن العالمين ليحملوا رسالته ويقودوا البشرية؟ والمتعة الأكبر ذات القيمة المطلقة في انقشاع الغيب وتكشّف الحجب والوصول إلى البُعد الأوحد الأزلي الأبدي في أعلى مدى سيصله بشري وهو رؤية الله عز وجل؟

فهل ركز خطابنا الديني لقرون على الجانب الشهواني أو الترف الجسدي أو المشاهد البصرية المبهرة؛ لأنها أهم النعم أم لأنها أسهل في الشرح والتصور؟ لماذا كان صعباً على المفسرين والشارحين تصوّر أو تخيّل المتعة العقلية في المعرفة اللامحدودة أو في النظر إلى الله وتكليمه وسؤاله عن كل ما كان وسيكون؟ هل سيكون أمتع من سؤال النبي وأصحابه والخلفاء والعلماء في مختلف العصور عن كيف فكروا وكيف توصلوا لأي مما أنجزوه في الدنيا؟

وهل من لذة أحلى من سماع قصص سكان الجنة ماذا عملوا من أجل الوصول إليها على اختلاف زمان ومكان بعثهم؟

لماذا لم نستطع في أطروحاتنا الإسلامية عن وصف الجنة الانطلاق في فضاءات العقل لنتجاوز القوالب القديمة التي عفا عليها الزمن منذ مئات السنين، تماماً كما بهرنا الخيال العلمي في كسر كل الكليشيهات المعروفة؟ ألم يكن من الأولى لخطابنا أن يحلّق حرّاً متفرّداً كما أراد الله لنا؟

إنني أدعو المفسرين والمفكرين والدعاة إلى أن يتساءلوا عن جوانب أخرى في نعيم الجنة غير تلبية شهوات الجسد، وأن يحاولوا شرح هذه الجوانب بتفسير الآيات التي تشير إليها وجمع الأحاديث والآثار المتعلقة بها؛ ليدمجوها في خطابهم الديني، ويرتقوا بشروحاتهم إلى الإسلام الحقيقي، ذلك الدين الكامل الشامل الخاتم، علّني أجد إجابات أوضح وأجمل وأرقى لأولادي عند سؤالهم لي عن وصف الجنة، لأجيبهم بأكثر من: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد