الخيانة، ما أقبحها من كلمة تجري على اللسان فيجفّ ريقه، ولا تستسيغها أذن واعية، تحمل من المرار ما يعكر صفو البحار، ذلك بأنها "الخطيئة" التي تعاقب صاحبها بقية حياته، بتكدير صفوه، فلا يتحلل منها طرفة عينٍ، تتربص به ما دام يلهج بالنفس على ظهر الأرض، تؤرق قيامه، وتزعج منامه، يتحسس صورة ضحيته رأي العين من أمامه، ويستشعر الرعب من خلفه، وعن يمينه وشماله، وعلى الجُدر لا تفارق خياله.. يود لو يفتدي منها بما بقي له من عمره؛ كي لا تزاحمه في قبره حتى قيام الساعة، وتفضحه يوم يبعث الأشهاد.
أما عاقبة الخائنين لا ريب فيها فهي سواد وجوههم في الدنيا، وسوء منقلبهم وبئس المصير، وما أقسى العاقبة حين يحرمهم الله من الهداية إلى الحق، فلا يبصرونه، وإن كان أبين من الصبح لذي عينَين، وأوضأ من الشمس في رابعة النهار، ويحرمهم من محبته (عزَّ وجل)، ويبطل كيدهم، ويفلّ حدّهم، ويجعل دائرة السوء عليهم، ثم تكون نهايتهم الهلاك؛ ليكونوا لغيرهم من بعدهم عظةً وعبرةً وآية.
لا إله إلا الله.. إنها أبشع ميتة.. جسد رِمي لوحشِ آدمي ركض ولهث، وسال لعابه كرغاء بعير في سباق العمر.. ثم انبطح على عقبيه في مشهد لخّص حياته بأدق تفاصيلها.. جاء إلى الدنيا كشبح، وخرج منها كسراب بقيعة، لم يسد رمقه غير أقبح ذنب، ولم يشبع غريزته غير شهوته، ولم يملأ عينيه إلا التراب.
روي أنّ معاوية كان بينه وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدراً، فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية يسأله فقال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء".. فرجع معاوية.
أما الضحايا الذين ابتلوا بالخيانة ممن ائتمنوهم، ووثقوا فيهم، فإن الله سيحفظهم وسينصرهم على هؤلاء الخائنين، فتلك هي العاقبة، وسُنة الله -تبارك وتعالى- في خلقه التي لا تتخلف ولا تتبدل، ولنعلم علم اليقين أن النفس الإنسانية لا تتجزأ، ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة، ليست من حقها، فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة، ولا يصلح الله لها عملاً ولا يتقبل منها ولا ينظر إليها أبداً، إنه قمة الحرمان والخذلان المبين أن يعرض الله وجهه الكريم عن وجوه الخائنين الذين خانوا الله وخانوا أماناتهم.
يحكى أن أحد أمراء الدروز من "بيت الدين" كان يدعى "بشير المعني"، قد دعا أمير قبيلة عربية من البادية، ولبَّى الأمير البدوي الدعوة، فقام الأمير "بشير" باستقباله بحفاوة، ودعاه إلى نزهة لصيد "طيور الحجل" بجبل لبنان، وكان عند الأمير "بشير" طائر "حجل" جميل رباه في منزله، وكان يجعله طُعماً يأخذه معه لمكان الصيد فتجتمع طيور "الحِجل" من حوله فيقوم الصيادون باصطياد تلك الطيور، وعندما بدأ الصيد أمام الأمير "البدوي"، والصيادون يرمون الطيور "المخدوعة" بالبندق!
صوب "الأمير العربي" نحو طائر الأمير بشير وقتله، فصرخ به الدرزي بشير: "هذا طائري.. لمَ قتلته"؟
فأجابه الأمير "البدوي العربي": "والله، لا يأثم مَن قتل خاين بني قومه.. لا يأثم من قتل خاين بني قومه"!
أما مِسك الختام: كان سيدنا الحبيب المصطفى خير الأنام -صلوات الله وسلامه عليه- يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة" (أخرجه النسائي).
وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة؛ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّاً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطِ أجره).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكلّ غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان".
يا كلَّ مَن خان وديعة أو عهداً أو صديقاً أو صديقة.. أين ستهرب من جرمك؟ وكم ستنتفع بها من عمرك؟ إنها لن تطيل أجلك، واعلم أن الله الذي لا تراه يراك في تقلبّك وحين تقوم، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.
أيها الخائن بلا أدنى وجل.. اتقِ الله عز وجل، واستمع قولاً به ضُرب المثل "دقة بدقة ولو زدت لزاد السقا".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.