الضلالات الجماعية تجعلنا نرى أن الشعوب المتقدمة لم تولد متقدمة، بل كانت تعاني من نفس ما نعانيه، يجب ألا نتورط أبداً في معركة تخص الماضي، حتى وإن بدت أنها تعني لنا الكثير، فالمعارك التي تستحق العناء هي معارك المستقبل ونحن في بلد يبشر بمعارك مستقبلية عظمى والتي من كثرتها ليس هناك متسع من الوقت لنخوضها جميعاً!
تذكرت أن تلك الأيام هناك شعب ألمانيا يحتفل بذكرى انتصارات فكرية، حينما أعرب مارتن لوثر عن اعتراضه على فكرة صكوك الغفران، واعتبرها بلا قيمة، وبدأ في كتابة اعتراضاته الـ95 على الطرح الديني للكنيسة الكاثوليكية والبابا ذاته التي كان أحدها: (لماذا يريد البابا بناء الكاتدرائية من مال الفقراء بدلاً من ماله أو مال الفاتيكان الخاص؟) وقام في يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 1517 م بتعليق عريضته تلك على باب القلعة الكنسية في مدينة فيتنبيرغ بشرق ألمانيا، وبدأ بحشد الأنصار حول أطروحاته ضد صكوك الغفران ومعظم الطرح الديني للكنيسة الذين قاموا بطبعها وتوزيعها لتنتشر في غضون أسبوعين في مختلف أنحاء ألمانيا، بعد جولات من جلسات لمناقشة أطروحات مارتن لوثر لمحاولة إثنائه عنها لامتصاص الموجة الشعبية المؤيدة له ورفضه التراجع.
أعلن الإمبراطور بناء على توصيات البابا أن مارتن لوثر زنديق سيئ السمعة خارج عن القانون مهدر دمه ومطلوب للإمبراطورية المقدسة حياً أو ميتاً، وتم حظر مؤلفاته وتجريم كل مواطن ألماني يؤويه أو يقدم له مساعدة.
(الطقس مخادع عظيم) هكذا يصف البحارة الطقس باعتباره صمام الأمان في عالم البحار، أما على الشاطئ فالأمر يختلف جذرياً فالمعلومات والأخبار العاجلة هي بمثابة (طقس الشواطئ)، والكل يريد أن يستغل ما يصل للناس من أجل مكاسب شخصية، ابتلينا بهؤلاء الهمَّازين المشَّائين بالنميمة، يترقبون الأحداث فيذيعونها بين الناس، يشيعون جواً ملبَّداً بالغُيُوم، ينزعون فتيل الحرب النفسيَّة وليست قوة النيران، ذكرهم الله حاكياً عن نفسياتهم بأن في قلوبهم مرضاً، مرتابون مرجفون يمشون بالخفاء ويدبون الضراء، لهم بكل طريق صريع من السذج البسطاء، يتخذون زخرف القول غروراً، يلجأون لدموع التماسيح محاولين بشتى الطرق التلون لإسقاطك في فخ الإقناع المزيف، أعدوا لكل حق باطلاً يلبسونه فلا ترى الحقيقة فتنخدع بالأمور، ينخرون كالسُّوس في الجسد!
"إنك لن ترى شيئاً ما لم تصل إلى التشبيه الصحيح الذي يجعلك تُدركه"، تلك نصيحة المؤرخ العلمي مايكل كون، الموجهة لصاحب نظرية الفوضى، عندما أراد أن يصل بنظريته للمتخصصين داخل المؤتمرات العلمية وليس للعوام، فأطلق على نظريته اسم (أثر الفراشة) لتكون سهلة الفهم، ونجحت نصيحة مايكل كون، فما بالك ببرامج التوك شو التي يُستنبط منها المانشيتات الساخنة وأكل عيش للكثير من المرجفين في مدينتنا.
فدعنا نكن أكثر ذكاء من هؤلاء أيها المفكر الكبير من أجل رجل الشارع العادي، وتلك النصيحة أوجهها للمفكر يوسف زيدان هي كيفية توصيل المعلومة لرجل الشارع العادي، وإن كان قوله (إنه يجب أن يناقش ذلك في المؤتمرات العلمية) لهو خير دليل على أنه يعي تلك النقطة، ولكن يجب أن يأخذ في اعتباره أنه إن أراد أن يتحدث في برنامج يشاهده رجل الشارع العادي كبرنامج عمرو أديب، أفلاطون نفسه يُعتبر قدوة في تبسيط العلوم الفكرية والإنسانية للبسطاء، كتب للعوام أعمالاً مبسطة على هيئة مسرحيات حوارية، منها فن الخطابة والفضيلة وخلوة النفس البشرية، ولم يهتم فقط بالأكاديميات، وأيضاً كوبرنيكوس صاحب الضربة الفكرية الأولى التي زلزلت كيانات الجمود القائمة في عصره، قال: إن الأرض تدور، وإنها ليست مركز الكون، ضارباً بذلك بنظرية بطليموس أرسطو عرض الحائط التي استمرت 20 قرناً والتي دعمتها الكنيسة لمدة 12 قرناً، وجعلت مجرد التشكيك في هذه النظرية كفراً، إذن الأرض تتحرك والكنيسة كانت كل هذه السنين الماضية على خطأ.
كوبرنيكوس نفسه كان رجل دين فهو كاهن كنيسة فراونبورغ في بولندا، كوبرنيكوس خاف في البداية من غضب الكنيسة، وخشي معه نشر الكتاب، فنصحه ناشر الكتاب بوضع مقدمة للكتاب تقول: إن الكتاب رياضي وما فيه من نظريات افتراض ثبوت الشمس ودوران الأرض هي نظرة رياضية اقتضتها الحسابات، وبذلك نجا من غضب الكنيسة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.