يخططون لاجتثاث الوهابية من الفلوجة عبر تنقيح السُّنة.. قصة “الإسلامي المحمدي” ومحاربته للتطرف في العراق

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/15 الساعة 11:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/15 الساعة 11:18 بتوقيت غرينتش

يقف المعلم قاسم العبدلي أمام مجموعة من العراقيين؛ ليلقي جلسة تطوير الذات وسط مدينة الفلوجة.

ويسأل قاسم: "لماذا قتلت داعش الحلَّاقين، والموسيقيين، والمغنين؟"، مشيراً إلى تنظيم "الدولة الإسلامية"، ثم يجيب قائلاً: "لأنَّ تصوُّر داعش عن الإسلام يعني القتل، والكراهية، وازدراء الآخرين، لكنَّ الإسلام الحقيقي يدعو إلى السلام، والحب، والمساواة بين الجميع".

جلس الطلاب، في غرفةٍ دون كهرباء، يستمعون بانتباه، ويومئون برؤوسهم، ويُدوِّنون الملاحظات. ويشارك الطلاب في دورةٍ من 5 أيام يُقدِّمها مجلس علماء الرباط المحمدي (مجلس الشيوخ المحمديين) مجاناً، ويتمركز المجلس في الفلوجة؛ ليحارب الأيديولوجيات المُتطرِّفة في محافظة الأنبار المضطربة إلى ما يقرب من 10 سنوات الآن.

ويعد هذا التدريب أحد أجزاء برنامج نزع التطرف الذي تديره المنظمة، ويهدف إلى تغيير النفسية الدينية للفلوجة بعد احتلال داعش لها، وهي المدينة العراقية التي تضم نحو 200 مسجد، وفقاً لما ورد بتقرير لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني.

الوهابية

وعُرِفَت الفلوجة (التي اشتُهرت بمقاومتها الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، وما تلاه من احتلالٍ للعراق)، منذ فترةٍ طويلة، بالعنف والقلاقل داخل البلاد وخارجها. وتفيد التقارير بأنَّ محافظة الأنبار قد أسقط فيها التحالف العسكري أعداداً من القتلى أكثر من أي منطقة أخرى بالعراق.

وبعد أن غادر الجنود الأميركيون، سرعان ما أصبحت الأنبار مرتعاً للنشاط الإرهابي لـ"القاعدة" قبل أن تسقط بيد داعش في عام 2014.

ويوضح الشيخ كامل الفداوي، وهو واحد من 12 عالماً يعملون بالمجلس، كيف استقرت نسخة متشددة للغاية من الإسلام في المدينة، ويقول: "بدأت الوهابية تنتشر هنا بالمساجد منذ عام 2003، عندما بدأ المتطرفون في اغتيال أئمة السنّة الصوفية بالفلوجة وتدمير مقابر الأئمة الصوفيين".

وأضاف: "حتى قبل أن يسيطر داعش على المدينة، أظهرت كل وسائل الإعلام الفلوجة باعتبارها مدينةً للإرهاب. كنا نشعر أحياناً بأنَّ ما يحدث هو عقاب للمدينة؛ لأنها رفضت الاحتلال الأميركي".

الإسلام المحمدي

ويساور المجلس القلق تجاه الانتشار المحلي للأفكار الوهابية، التي يقول الشيوخ إنَّها تستند أساساً إلى الحديث (ما ورد عن أقوال النبي محمد، وأعماله، وعاداته)، بدأ المجلس في مكافحة الفكر المتطرف من جذوره.

وقد اضطلع المجلس بمهمة ضخمة تتمثل في فحص كل حديث ومقارنته بالقرآن، في مشروعٍ يُعرف باسم الإسلام المحمدي (وهو ما يعني "إسلام النبي محمد"). وفي محاولة لأن ينأى بنفسه عن المسميات الطائفية للسنّة والشيعة، يُعزِّز المجلس فكرة الإسلام الموحد.

واستناداً إلى القرآن، يحدد المجلس ما إن كان الحديث صحيحاً أم لا، ويقوم باستبعاد تلك الأحاديث التي لا تستند إلى أساسٍ قرآني، ويصنفها بأنَّها أحاديث ضعيفة.

ويوضح الشيخ الفداوي: "تقوم الوهابية على أحاديث قبيحة وكاذبة. استقطع داعش بعض العبارات من الأحاديث ووضعها موضع التنفيذ، لكن هذه الجمل لا تمثل الفكر الحقيقي للنبي محمد أو الإسلام. هذه الأحاديث هي في الواقع جمل تاريخية، وليست دينية".

عندما فرَّ سكان الفلوجة

وكان المشروع قد بدأ بدايةً مُوفَّقَةً عندما سيطر تنظيم داعش على الفلوجة في عام 2014. هرب شيوخ المجلس الذين تلقوا تهديدات بالقتل بسبب عملهم، إلى جانب ما يصل إلى 90% من سكان الفلوجة (بلغ عدد سكان المدينة نحو 275 ألف نسمة في عام 2011).

ومن مدينةِ "حديثة"، التي تقع على بُعد 200 كم شمال غربي الفلوجة، كثَّفَ المجلس جهوده الرامية إلى إزالة التطرف. ومع أنَّها كانت محاطة تماماً وتحت حصار داعش 18 شهراً، كانت "حديثة" أول مدينة استطاع الشيوخ فيها انتزاع السيطرة على جميع المساجد من يد الدعاة الوهابيين المتطرفين.

وبعد أن حرَّرَت القوات المسلحة العراقية الفلوجة في يونيو/حزيران 2016، عاد المجلس إلى مبانيه السابقة المُدمَّرَة والمُهدَّمة ورفعَ "عَلمه الأبيض" للإسلام فوق مسجده الذي تركه مقاتلو تنظيم "الدولة الإسلامية" مُدمَّرَاً تماماً.

إن حروف اللافتة الزرقاء، ذات الخلفية البيضاء، مستوحاة من الأوصاف التي وردت في الأحاديث لعَلم النبي محمد نفسه، والمقصود أن يكون مناقضاً للعَلم الأسود الذي يفضله تنظيما "داعش" و"القاعدة".

وفي أثناء الـ12 شهراً التي تلت تحرير الفلوجة من قبضة داعش، يقول المجلس إنَّه استعاد السيطرة على الـمساجد المائتين الموجودة بالمدينة من الأئمة الوهابيين المتطرفين.

ويقول السكان إنَّ المدينة الآن أكثر أمناً من أي وقتٍ مضى منذ سقوط صدام حسين.

ويقول حيدر العباس، الذي يبلغ من العمر 29 عاماً، ويعمل حارساً شخصياً: "نتمتع الآن بمزيدٍ من الأمن والحرية أكثر مما كنا عليه قبل داعش؛ لأنَّه قبل داعش كان لدينا تنظيم القاعدة. ليس لدينا الآن سوى خلايا نائمة إرهابية. إنَّهم خائفون".

الحشد الشعبي

ويرأس الشيخ محمد النوري مجلس الشيوخ، وقال في مؤتمر لمكافحة الإرهاب نظمته قوات الحشد الشعبي بالعراق في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2017: "بعد أن استولينا على جميع مساجد المدينة، أصبحت الفلوجة مدينة عراقية تؤمن بالتعايش".

وقال إنَّ نجاحنا في نزع التطرف بـ"حديثة" والفلوجة يُمكن أن يكون مثالاً يُحتذى به للبلدان الأخرى، بما في ذلك بلدان أوروبا، وأضاف: "أصبح العراق الآن نواةً لمحاربة الإرهاب فى العالم بأسره".

وكان عمل المجلس شديد النجاح محلياً حتى إنَّ الحكومة العراقية طلبت من الشيوخ توسيع نشاطهم على الصعيد الوطني، وقد بثوا بالفعل 67 برنامجاً على التلفزيون العراقي، ويقولون إنَّ أفكارهم بدأت تمتد إلى ما وراء حدود البلاد.

وقال الفداوي: "لقد أنتجنا رسالةً مدتها دقيقة واحدة نشرناها عبر فيسبوك، باستخدام الكلمات الصحيحة. دقيقةٌ واحدة هي كل ما يلزم للبدء في تغيير عقول الناس".

وأضاف: "لكنَّ بالطبع تغيير عقول الناس حول المسائل الدينية يكون أكثر فاعلية عندما يجري من المآذن وداخل المساجد".

الفتيان المغسولة أدمغتهم أقنعوا عائلاتهم

ويوشك المجلس على الانتهاء من فحص جميع الأحاديث التي يبلغ عددها آلافاً، لكن على الرغم من أنَّه حقق عدة نجاحات ملحوظة، ما زال يرى عمله بعيداً عن الانتهاء.

ويقول الشيخ الفداوي: "أمامنا معركتان لنحارب داعش والمتطرفين؛ الأولى هي المعركة العسكرية، والثانية هي معركة الأفكار. وستكون معركة الأفكار أكثر صرامةً وأطول أمداً من أي معركة عسكرية".

وكجزءٍ من أهدافه طويلة المدى، يقوم المجلس بتعزيز جهود نزع التطرف، بمحاولة تحسين فرص التعليم من خلال مكاتبه في قلب بلدة الفلوجة القديمة، كما يقدم دورات تطوير الذات للبالغين؛ لتعزيز مهارات الاتصال والقيادة.

وتستهدف هذه الدورات بشكلٍ خاص، المجتمعات الفقيرة في الفلوجة، والتي عانت أكثر من عامين قسوة تنظيم داعش وعمليات غسل الأدمغة، فضلاً عن بطالة العديد من سكانها.

ووفقاً لما ذكره عباس، الذي لم تتمكَّن أسرته من دفع رسوم تنظيم داعش البالغة 4000 دولار للشخص الواحد للهروب من المدينة، فقد وصل التطرف للعديد من العائلات من خلال أطفالها، بعد أن سيطر تنظيم داعش على جميع مدارس الفلوجة وغسل أدمغة الفتيان الذين تقل أعمارهم عن 10 سنوات.

ويقول عباس: "لقد علَّموا أطفالنا تعليماً شريراً مستحدثاً، فاستخدموا كتباً لتعليمهم الجهاد، ولتعليمهم القتل وصنع القنابل".

ويضيف: "كان الأطفال هم من يُقنِعون عائلاتهم بأيديولوجيات داعش، حتى الفتيات هنا تم غسل أدمغتهنّ ليصبحن انتحاريات!".

وقال العبدلي في مقر المجلس حيث تُقدَّم فصول ودورات منفصلة للنساء والأطفال: "أقنع تنظيم داعش أطفالنا بأن يفكروا مثلهم وأن يطيعوا أوامرهم، لكننا نبذل قصارى جهدنا لتغيير طرق التفكير هذه".

وبالإضافة إلى التطوع في المجلس، فالعبدلي أيضاً عضوٌ بمؤسسةِ الرشيد للثقافة، وهي منظمة قامت بعد سقوط تنظيم داعش وتعمل على تعزيز الأنشطة الثقافية في المدينة.

ويقول العبدلي: "لدينا العديد من المشاريع في الفلوجة بعد سقوط داعش، وخاصةً بالنسبة للأطفال والنساء، ومن دواعي سروري أن لديّ الوقت والطاقة والتدريب للمساعدة في محاولة تغيير أفكار الشباب هنا".

إعادة بناء بعد حكم الإرهاب

في حين تبدأ الفلوجة تدارك نفسها من الألم النفسي الناجم عن العنف والتطرف، اللذين امتدا طيلة 15 عاماً، فهناك أيضاً جهود متواضعة يمكن رؤيتها لإعادة الإعمار في جميع أنحاء المدينة.

تُموَّل تلك الجهود في الغالب من قِبَل السكّان المحليين الأكثر ثراءً، ومن قِبَل الأمم المتحدة، بينما لا تزال تصب الحكومة العراقية مواردها في المعركة ضد تنظيم داعش.

وألقت حطام الحرب بظلالها على جزءٍ كبير من المدينة، فهناك المنازل التي هدمتها الغارات الجوية، والمآذن نصف المُهدَّمة بنيران المدفعيات، والمباني المليئة بالثغرات التي خلَّفها إطلاق النار.

وهناك عددٌ قليلٌ من المباني، وهي مبانٍ مملوكة من قِبَل الأسر المحلية التي دعمت تنظيم داعش منذ بداية ظهوره، تتميز برسم دائرة بداخلها صليب على جدرانها وأبوابها.

ويُظهِر السكان علامات اللامبالاة تجاه ساكني تلك المباني، فيقولون إنَّ بعض رجال هذه المنازل ماتوا في أثناء مواجهتهم الجيش العراقي، بينما فرَّ الأحياء منهم، مع أسرهم، إلى المخيمات.

رجم النساء

حُكِمت الفلوجة من قِبَل تنظيم داعش بالإرهاب، فقد رُجِمت النساء حتى الموت؛ لرفضهن ارتداء النقاب، وحُرّقت ألسنة الشعراء والمغنين، واعتُقِل المئات الذين لا يزالون مجهولين حتى يومنا هذا، فأنصار داعش في الفلوجة غير مرحب بعودتهم.

وتُشير الحواجز الخرسانية الثقيلة والشاهقة في نقاط التفتيش بالمدينة إلى التهديدات المُحتملة التي لا يزال يُشكِّلها المسلحون في الأنبار وخارجها.

وتقع آخر البقاع التي يحتلها تنظيم داعش بالعراق غرباً في جزءٍ من صحراء الأنبار الواقعة على الحدود مع سوريا، حيث أعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الأسبوع الماضي، تحرير مدينة القائم الصحراوية، وهي مفتاح هام لتلك الصحراء.

لكن على الرغم من الوجود العسكري الواسع ونقاط التفتيش والحواجز التي تحمي أكشاك السوق من الانتحاريين المُحتملين، فإن الشوارع المركزية في الفلوجة صاخبة وحيوية، حيث يضع السكان الماضي وراء ظهورهم ليقتربوا من المستقبل بتفاؤلٍ حذر.

الزواج بين السنّة والشيعة

قبل عام 2003، كان التمييز بين السنّة والشيعة من السكان المحليين في المدينة طفيفاً؛ إذ كان زواج أصحاب الأديان المختلفة شائعاً حتى إن واحدةً من زوجات أحد شيوخ السنّة في المجلس كانت شيعية.

ويقول الشيخ الفداوي: "الثقافة العراقية الحقيقية لا تفصل بين المناطق أو بين الأحزاب، ففي الفلوجة اعتاد السنّة والشيعة والمسيحيون والصابئة أن يعيشوا معاً في سلام، ولكن بعد أن جاءت القاعدة وداعش قُسِّمت البلاد تقسيماً طائفياً".

وقد يستغرق الأمر سنوات عديدة قبل أن تُفكِّر الأقلية المسيحية بالفلوجة في العودة، فقد فرَّت تلك الأقلية خوفاً بعد صعود الإرهاب عام 2003.

لكن الأعلام الشيعية التي تحلّق الآن بين الحين والآخر في جميع أنحاء المدينة تُقدِّم دليلاً على صحة مزاعم النوري بأن الفلوجة بدأت أخيراً في العودة إلى حالة التعايش التي كانت عليها قبل عام 2003.

تحميل المزيد