نظرة على الوظيفة الاجتماعية للغة “1”

واللغة هي دالة الفكر، عن طريقها يصوغ الإنسان أفكاره، هي "مجلى للفكر وترجمان له" كما ذكر الإمام محمد عبده، هي الوعاء الذي يحمل فكر الإنسان وينقله من عقله إلى عقول غيره في الدنيا الفسيحة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/15 الساعة 02:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/15 الساعة 02:05 بتوقيت غرينتش

اللغة هي مجموعة من الرموز، فأي لغة هي شفرة رمزية لا بد من إتقانها؛ كي يمكن التواصل من خلالها.

ولقد طوّر البشر أنواعاً عديدة من الأنظمة الرمزية عبر الزمن، ‏وتهدف النظم الرمزية إلى نقل المعلومات بدقة وبانتظام، والتي تكون ذات معنى من الناحية ‏الثقافية.

وأي لغة منطوقة ومكتوبة، وكذا النظم الرياضية بما تحوي من أرقام وعلامات الحساب والبسط والمقام والفواصل العشرية، والمعادلات المنطقية، ‏والخرائط والرسوم البيانية واللوحات، وغيرها، ما هي إلا أمثلة لتلك النظم الرمزية أو الشفرات التي لا معنى لها إلا لدى من يعرف مدلولاتها، لكن تبقى اللغة الملفوظة هي المعنية عند الحديث عن اللغة؛ كونها تميز الإنسان؛ أي إنسان، ولا أعني الملكة الفطرية لدى الإنسان التي تمكنه من تعلم اللغة، بل أعني اللغة المعينة التي يتعلمها الإنسان في بيئته بعد ميلاده.

واللغة هي دالة الفكر، عن طريقها يصوغ الإنسان أفكاره، هي "مجلى للفكر وترجمان له" كما ذكر الإمام محمد عبده، هي الوعاء الذي يحمل فكر الإنسان وينقله من عقله إلى عقول غيره في الدنيا الفسيحة.

وكم تختلف نظرة الإنسان باختلاف اللغة التي يفكر ويعبر بها، ولعلنا نلاحظ الفرق بين التفكير الشرقي والغربي، ومن جرّب الكتابة بلغتين مختلفتين يلاحظ أكثر من غيره كيف أنه حين يفكر ويكتب باللغة العربية يختلف كثيراً عنه عندما يكتب بلغة هندوأوروبية، بل وهناك دراسات تشير إلى أن تحدث الفرد بلغتين ينشط كلا النصفين الكرويين للمخ، ومن ثم تنشط معالجة المعلومات المتعلقة بالفهم، ومن ثم يفكر بشكل أفضل، وترتفع نسبة نجاح ما يتخذه من قرارات.

لكن ليست وظيفة اللغة الفكرية هي موضع حديثنا في هذا المقال، وإن كان لا يمكن الفصل بينها وبين وظيفتها في التواصل الاجتماعي.

فاللغة هي وسيلة النوع البشري الأهم للتواصل والفهم، وكل الألفاظ في اللغة العربية التي تدل على جودة التعبير اللغوي مادتها الأساسية هي الوصول والوضوح.

البيان أصلٌ معناه الوضوح، والفصاحة من "فصح اللبن" عندما تزول رغوته ويظهر ويَضَح، والبلاغة مادتها بلغ؛ بمعنى أن ما أقوله قد بلغك فوعيت ما أعني.

لكن الوضوح لا يعني الضحالة الفكرية وقلة العمق في المعنى على كل حال.

ولعل من أشهر تصنيفات وظائف اللغة ذلك التقسيم الثلاثي لها الذي وضعه عالم النفس الألماني الشهير كارل بوهلر، اعتماداً على المكونات الثلاثة الرئيسية في أي حديث؛ وهي المُرْسِل، والمُرْسَل إليه، وموضوع الحديث. وعليه اعتبر بوهلر ثلاث وظائف للغة ترتبط كل منها بأحد تلك المكونات؛ فالوظيفة التعبيرية الانفعالية ترتبط بالمُرسِل، والوظيفة التأثيرية الانتباهية الإشارية ترتبط بالمرسل إليه، أما الوظيفة الوصفية التمثيلية فترتبط بالموضوع.

وقد أخذ بتصنيف بوهلر فيلسوف العلم كارل بوبر، بعد أن أضاف إليه وظيفة رابعة وهي المُحاججة التي هي أساس النقد‏، وهي أهم وأعلى وظائف اللغة عند كارل بوبر.

وتصنيف بوهلر شأن أغلب التصنيفات التي حاولت البحث في الوظيفة الاجتماعية للغة باعتبار الهدف الرئيسي من التكلم هو التواصل بين مُرْسِل ومُرْسَل إليه، فلغة الكلام وسيلتنا الأهم للتواصل الاجتماعي.

إن أول ما يتعلم الإنسان اللغة الملفوظة، وهي تؤدي لنا وظيفة اجتماعية هامة أبعد أثراً من نقل الكلمات.

ويذهب العالم اللغوي إدوارد سابير إلى أن اللغة هي على الأرجح أعظم قوة من القوى ‏التي تجعل من الفرد كائناً اجتماعياً.

ويعلق د/عثمان أمين في كتابه "فلسفة اللغة العربية" بأن ‏مضمون هذا الرأي أمران: الأول أن اتصال الناس بعضهم ببعض في المجتمع البشري لا ‏يتيسر حصوله بدون اللغة.

والأمر الثاني أن وجود لغة مشتركة بين أفراد قوم أو أمة من شأنه ‏أن يكون هو نفسه رمزاً ثابتاً فريداً للتضامن بين الأفراد المتكلمين بها.‏ والأمر الثاني هو ما يُشار له باسم القومية.

أما وأن البشر لا يمكن أن يتواصلوا بدون لغة الكلام، فهذا ولا شك جزء من معضلة التواصل البشري، وليست انعدام اللغة الملفوظة هو الحائل الوحيد الممكن.

يشير دين آرشر ‏Dane Arsher – 2001، إلى أن الثقافة أحياناً ما تصبح مثل الحاجز الذي يمنعنا ‏من فهم الأشخاص من مجتمعات أخرى، وأيضاً يمنعهم من فهمنا، وكثيراً ما نخطئ في فهم ‏الأفراد من ثقافات مختلفة عن ثقافتنا بسبب اختلافات في اللغة أو اللهجة أو القيم أو ‏الإيماءات أو التعبير الانفعالي أو المعايير أو الشعائر أو القواعد أو التوقعات أو الخلفيات ‏الأسرية أو خبرات الحياة. ‏

وفي كتابه "فلسفة اللغة العربية" للدكتور عثمان أمين، ينقل لنا ما أورده العالم ألبرت عن وظائف اللغة الاجتماعية، فيقول: إنها تجعل للمعارف والأفكار البشرية قيماً اجتماعية، بسبب استخدام المجتمع للغة بقصد الدلالة على أفكاره وتجاربه، وأنها تحتفظ بالتراث الثقافي والتقاليد الاجتماعية جيلاً بعد جيل، وأنها باعتبارها وسيلة لتعلم الفرد تُعينه على تكييف سلوكه وضبطه، حتى يلائم هذا السلوك تقاليد المجتمع وسلوكه، وأنها تزود الفرد بأدوات للتفكير.

وما كان المجتمع البشري ليصير إلى ما هو عليه الآن بدون التعاون الفكري لتنظيم حياته.

ولا يتأتى هذا التعاون الفكري إلا بالتفاهم وتبادل الأفكار بين أفراد المجتمع.

والوسيلة العملية الميسورة لهذا التبادل والتفاهم هي لغة الكلام، وبدونها ينحط التفاهم إلى مستوى التعبير عن المدركات المحسوسة والانفعالات الأولية.

أنماط التواصل الاجتماعي

يُفهم من كلام ألبرت السابق أنه يصنف أنماط التواصل إلى لغة الكلام ولغة انفعالية حسية، وهو تصنيف يكاد يتفق عليه كل من درسوا التواصل الاجتماعي.

نحن كما يذكر بنينجتون (‏Pennington، 1999) نقضي معظم حياتنا في التفاعل وجهاً ‏لوجه مع شخص أو جماعة صغيرة من الناس، والتفاعل الاجتماعي في مضمونه ليس ‏سوى تبادل منظم للرسائل اللفظية وغير اللفظية، أي أن هذا يحدث عن طريق وسيلتين من ‏وسائل الاتصال هما اللغة المتحدثة (الاتصال اللفظي) ‏Verbal Communication‏ والاتصال ‏غير اللفظي ‏Non-verbal Communication، فإذا كان الاتصال اللفظي هو الكلمات الحقيقية ‏المتحدث بها، فإن الاتصال غير اللفظي يشتمل كل السلوكيات بين الأشخاص عدا الكلمات ‏المتحدث بها وينقسم إلى السلوك اللفظي ‏Verbal Behavior‏ والسلوك غير اللفظي ‏Non- ‎verbal Behavior.

وفي تصنيفه للمهارات الاجتماعية التواصلية قسّم رونالد ريجيو (Riggio، 1989)‏ تلك المهارات كما تظهر في جانبين ‏من جوانب سلوك الفرد:

‏1-‏ الجانب الاجتماعي: ويختص بالاتصال اللفظي.‏
‏2-‏ الجانب الانفعالي: ويختص بالاتصال غير اللفظي. ‏
وكل جانب منهما يضم أنواع المهارات الثلاث: الإرسال (التعبير) والاستقبال (الحساسية) والضبط.
‏‌أ-‏ مهارات في الإرسال ‏Skills in Sending‏ أو ما يعرف بالتعبيرية ‏Expressivity ‎‏ وتدل على المهارة التي يتصل بها الأفراد معاً، بمعنى مبادرة كل فرد منهم في التواصل مع الآخرين. ‏

‏‌ب-‏ مهارات في الاستقبال ‏Skills in Receiving‏ أو ما يعرف بالحساسية ‏Sensitivity‏ وتعبر عن المهارة التي تفسر بها صيغ أو رسائلMessages ‎‏ ‏التواصل مع الآخرين.‏

‏‌ج-‏ مهارات في التحكم والضبط والتنظيم ‏Skills in Regulating or ‎Controlling‏ أو ما يعرف بالضبط ‏Control‏ وتعبر عن المهارة التي بها ‏يصبح الأفراد قادرين على تنظيم وضبط عملية التواصل في المواقف ‏الاجتماعية.
(يُتبَع)

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد