في منتصف العام الماضي أغلق محمد الخضر أبواب متاجره في العاصمة صنعاء، بشكل نهائي، واتجه إلى مدينة مأرب (173 كيلو متراً شرق صنعاء)، المدينة التي تشكل موطناً جاذباً للاستثمارات وواحة للهدوء وسط عواصف الصحراء.
حزم حقائبه على سيارته (البيك آب) ذات الدفع الرباعي، وأدار المقود نحو الشرق، ونظر إلى شمس الشروق، كان يحدث نفسه بأن المدينة الصحراوية تحمل آماله في البحث عن الاستقرار، وسط أزمة يبدو أن اليمنيين لن يجدوا مخرجاً منها.
بعد عام، وجد الخضر أن المدينة التي كان يتخيلها دوماً، بأنها خيمة وجمل وبدوي يقف على رأس النيران التي أشعلها للاستضاءة، وتفتقر لمظاهر الحياة العصرية، أصبحت اليوم قبلة للتجار والمستثمرين، فضلاً عن كونها تشكل نموذجاً للمدن والمحافظات اليمنية الأخرى.
فالمدينة الصغيرة التي تعد مركزاً للمحافظة الصحراوية التي تحمل ذات الاسم، نجت من إعصار الحرب، الذي ضرب البلاد مطلع العام 2015.
كيف نجت من الحرب
عقب سيطرة مسلحي جماعة "أنصار الله" (الحوثيين)، وحلفائهم من القوات الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح، على العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر من العام 2014، استعدوا للهجوم والسيطرة على منابع النفط الرئيسية في محافظة مأرب.
استولى الحوثيون على عتاد عسكري ضخم من المعسكرات التي فُتحت لهم فجأة، وهاجموا بشكل عنيف مديريات المحافظة، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من اقتحام المدينة، لولا أن قبائل المحافظة قاومت باستماتة، لتنضم إليهم قوات قليلة من الجيش اليمني المنهار.
عسكر الحوثيون على تخوم المدينة لأشهر، لكن مع انطلاق عمليات التحالف العربي الذي تقوده السعودية في 26 مارس 2015، جعل سكان المدينة يتنفسون الصعداء، فالحصار المسلح للحوثيين على المدينة بدأ بالتفكك.
ومن مدينة مأرب، شُكلت أولى المجموعات المسلحة لمقاومة الحوثيين وقوات صالح، وحرصت تلك المجموعات على جر المعارك مع مسلحي الجماعة إلى المديريات الصحراوية البعيدة عن المدينة، لتنجو أحياء المدينة من قذائف الحرب.
قبلة للنازحين
وبينما انزلقت البلاد إلى العنف، كانت المدينة المليئة بالغبار والأتربة قد أصبحت عاصمة لليمن، وجعل قربها من الحدود السعودية، ومن معبر "الوديعة" – الذي سيكون هو الآخر، نافذة اليمنيين للعالم طيلة الحرب وما يزال – قاعدة عسكرية.
نائب رئيس الجمهورية @alimohsnalahmar يؤدي صلاة الجمعة بين عدد القيادات العسكرية وجمع من المواطنين في محافظة #مأرب#اليمن#YEMEN pic.twitter.com/HM6sGacLTJ
— أحمد أبوسالم (@abu_salem10) November 10, 2017
ومعها حظيت المدينة بهدوء وأمان نسبيين، بعد أن وصلت إليها في نهاية أغسطس 2015 عشرات الدبابات من نوع "إم 1 أبرامز"، والعربات وناقلات الجند، وراجمة الصواريخ، ومدافع، وطائرات أباتشي، بالإضافة إلى منظومة دفاع جوي بانتسير-اس 1، مقدمة من التحالف العربي.
تصاعد منسوب الأمان جعل شوارع المدينة تعج بالآلاف من النازحين، الذين فروا من بطش الحوثيين ونيران الحرب، وفجأة تحدثت سلطات المدينة أن نحو 500 ألف شخص باتوا يسكنونها، بعد أن كان سكانها لا يتجاوزون 50 ألف شخص.
Home after an intense week in/around Yemen, inc getting smuggled to Oman after Saudi Arabia decided to close airspace and borders /1 pic.twitter.com/D4oQqSrO0h
— Bethan McKernan بيثان (@mck_beth) November 8, 2017
كان محمد الخضر واحداً منهم، تحدث لـ"عربي بوست، كما لو أنه وجد فردوسه المفقود، وقال "مأرب مدينة أنقذتني، يعود لها الفضل بعد الله، أنني أعيش واحدة من أفضل فترات حياتي".
الخضر هو تاجر خمسيني، يعمل في تجارة المجوهرات، لكن المدينة التي فتحت له آفاقاً عدة، جعلته يوسع تجارته في الصرافة وتجارة الغاز المنزلي، والأخشاب.
لكن ازدحام المدينة في وقت قياسي، جعلها غير قادرة على استيعاب النازحين ورؤوس الأموال، حيث يقول عدنان مثنى وهو أحد المعارضين السياسيين للحوثيين، إن "كل شيء هنا يكاد يكون منعدماً من شدة الإقبال عليه".
لا مساكن رغم حركة البناء
وعلى الرغم من أن الغارات الجوية التي تشنها مقاتلات التحالف العربي الذي تقوده السعودية، والصراع الأهلي، خلف أكواماً من الدمار في عدد من المدن والمناطق اليمنية، إلا أن هذه المدينة أخذت في النمو، حيث مصانع الطوب تنتج مشاريع تجارية سريعة وأحياء جديدة تنهض من الرمال، على حد تعبير مراسل نيويورك تايمز.
وارتفعت أسعار العقارات إلى مستويات قياسية، وتزايدت وتيرة إعمار المساكن، لكن ذلك لم يفِ بالطلبات الكبيرة للنازحين من أجل الظفر بأحد المساكن.
الفريق محسن يطلع على آلية عمل دائرة العمليات الحربية في #مأرب
https://t.co/4hDvOMmxId#الموقع_بوست#اليمن pic.twitter.com/A3kFFuvVTw— الموقع بوست (@almawqeapost) November 14, 2017
يقول مثنى إن "المدينة الصغيرة التي احتضنت عشرات الآلاف من النازحين، وبحكم ضعف بنيتها التحتية لم تستطع أن توفر بعض الخدمات الأساسية، ومن بينها شقق السكن".
وأضاف "هنا لا تستطيع أن تجد شقة للسكن بـ60 ألف ريال (150 دولاراً أميركياً) مقابل إيجار للشهر الواحد، وأقل شقة ستكون بنحو 70 ألفاً، ومن الممكن أن تلاقيها في العاصمة صنعاء بنحو 15 ألفاً (37 دولاراً)، أما إذا أردت شقة جيدة فستدفع 100 ألف (250 دولاراً) على الأقل مقابلها للشهر الواحد".
وأشار الناشط السياسي إنه بعد عام من نزوحه من العاصمة صنعاء إلى مأرب، لم يعثر بعد على مسكن مناسب له.
مدينة منطلقة
تبدو شوارع المدينة مزدحمة جداً، وخصوصاً في أوقات الذروة، وإذا ما رغبت في أن تستقل إحدى الحافلات الجماعية فعليك أن تنتظر لساعات لتحظى بمقعد مهترئ على حافلة لمحركها دوي مزعج.
الفريق محسن يطلع على آلية عمل دائرة العمليات الحربية في #مأرب
https://t.co/4hDvOMmxId#الموقع_بوست#اليمن pic.twitter.com/A3kFFuvVTw— الموقع بوست (@almawqeapost) November 14, 2017
يقول نايف محمد وهو شاب عشريني انتقل للمدينة من أجل الالتحاق بوظيفة بائع في أحد معارض الأقمشة، إن الحركة التجارية تشهد رواجاً غير مسبوق، و"كل شيء هنا فيه زلط (أموال)، وأتمنى أن تكون اليمن مثل مأرب".
لكنه أشار في المقابل أن التجار يستغلون حاجة الناس في بعض الحاجات "الأجمل أنك تجد هنا الأمن وهيبة الدولة حاضرة"، في إشارة إلى انهيار مؤسسات الدولة في معظم محافظات البلاد، التي شهدت حرباً ضروساً في البلد العربي الأكثر فقراً.
وفي حين أن اليمنيين اتجهوا إلى حل قضاياهم بالعرف القبلي (أحكام قبلية يصدرها مشائخ القبائل) بعد تراجع لدور مؤسسات الأمن والقضاء، تستخدم سلطات محافظ محافظة مأرب اللواء سلطان العرادة، عائدات النفط للتخفيف من وطأة وآثار الحرب، ووفرت قدراً كبيراً من الأمن والخدمات التي تفتقر لها أماكن أخرى.
كهرباء متوفرة وزراعة مستمرة
وتحظى المدينة التي نهضت من الرمال، بإنارة للمنازل والمحلات التجارية، خلافاً لباقي مدن البلاد التي تعاني من انقطاع الكهرباء منذ مطلع العام 2015، ووفر التيار الكهربائي المستمر فرصة للمستثمرين المحليين في إنشاء مشاريع ترفيهية مثل الحدائق ومحلات الهامبرغر والبيتزا.
يقول حسن الراشد، وهو أحد سكان المدينة لـ"هاف بوست"، إن المدينة نفضت عن نفسها غبار الأيام الخوالي، وكانت سمعتها أنها الملاذ الآمن لعناصر التنظيمات المتطرفة، اليوم كما لو أنها تكتسي ثوباً جديداً.
وابراج الكهرباء هاهي اليوم مدينة الامن والوئام والسلام
مأرب احتضنت اليمنيين بكل فصائلهم واحزابهم وطوائفهم ، لم تفرق بينهم ولم تدعي أن هذا شمالي وذاك جنوبي وهذا دحباشي وذاك برغلي أو هذا بدوي وذاك حضري بل قالت ان هؤلاء جميعهم يمنيين لهم مالهم من حقوق وعليهم ماعليهم من الواجبات pic.twitter.com/O70IMcSB2R— ??مطنوخ_مأرب ?? (@mohmad15541) November 10, 2017
ويضيف التاجر الشاب الذي نقل تجارته من صنعاء إلى مأرب، بلغة ساخرة "خلينا لكم صنعاء، أما نحن فسنبني مدينة لا تختلف عن مدن الخليج العربي"، في إشارة إلى التقدم الحاصل في الإمارات وقطر والسعودية.
في سوق أرحب وسط العاصمة صنعاء، يُفاخر عمر العتمي بصنف من البرتقال، ويقول "هذا أبو سر، جاي من مأرب، مش أي برتقال".
ويضيف بائع الخضراوات أن محافظة مأرب لا تزال تمد محافظات البلاد بالأطنان من الخضراوات والفواكه، خصوصاً البرتقال بنوعيه الحلو والحامض (يوسفي)، وهي المحافظة الوحيدة التي لا يزال فيها المزارعون ينتجون.
ويشكل سد مأرب الواقع جنوب غرب المدينة، والذي تبلغ مساحة بحيرته 30 كيلومتراً مربعاً، ويسع 400 مليون متر مكعب من الماء، ويروي حوالي 16 ألف هكتار من الأراضي، دافعاً لازدهار الزراعة، رغم تدهورها إبان سيطرة الحوثيين على السد.
الحرب لا تزال قريبة
لكن المدينة لم تصبح بعد في منأى عن الحرب، فالمسلحون الحوثيون لا يزالون يسيطرون على مواقع عسكرية في مديرية صرواح وجبال هيلان، غرب المدينة، وبين الحين والآخر، يقصفون بصواريخ الكاتيوشا أحياء سكنية غربي المدينة.
ويسفر القصف عن سقوط ضحايا مدنيين، بالإضافة إلى عسكريين، ورغم العمليات العسكرية العديدة التي تشنها القوات الحكومية للسيطرة على تلك المواقع، إلا أنها تفشل.
ويعزو أحد القادة العسكريين في القوات الحكومية، الذي تحدث لـ"عربي بوست"، مفضّلاً عدم الكشف عن هويته لاعتبارات أمنية، ذلك الفشل إلى استماتة الحوثيين وقوات صالح في السيطرة على تلك المواقع، بالإضافة إلى أن هناك توجهاً من التحالف العربي لإبقاء الوضع على ما هو عليه.
ويضيف "لا نعرف السبب في ذلك، لكنهم على الأرجح يريدون ألا تستفرد السلطات في المحافظة المحسوبة على حزب الإصلاح، ذي الخلفية الإخوانية، بالقوة".