ربما عام ونصف هي ليست بالفترة الطويلة للتحدث عن الغربة ومصاعب الهجرةالتي أصبحت حال الكثير من الشباب السوري، بظرف واقع الحرب الراهن. إن سورية لربما ليست كالغرب بتحضره وتقدمه الحضاري والاجتماعي والاقتصادي، لكن الحديث عن الفوارق الواضحة للعين المجردة، لربما يكون أمرا من الجيد الحديث عنه لعدة أسباب لربما تعود علينا بالفائدة مستقبلا. هي اللحظات الأولى التي تطأ فيها قدمك مطار "فرانكفورت" لتشعر بأنك فعلا انتقلت لعالم آخر، فهنا الأشخاص مختلفون، لغة جديدة ونظام مختلف بكل الأشكال والوسائل بشكل لم نعتد في عالمنا رؤيته. هنا كل شيء يجعل علامات التعجب، ولن أبالغ إذا ما قلت الانبهار تظهر على وجهك.. ولعل إطار العادات والتقاليد والدين الذي نشأنا في كنفها، لا تسمح لنا بالانتقال الذهني والجسدي والمعنوي والمادي السريع لهذا العالم المختلف عن عالمنا تماماً، لكن أنت تشعر هنا وكأنك في مجرة أخرى خلقت بمكونات مشابهة لعالمنا، برغم أن الوصف قد يكون مبالغ به مجازيا!
إن كل ما يهم في البداية، هو أن تعرف ما هي القبلة الصحيحة للتّعرف على هذا المكان بحسب شروط تضعها بنفسك، وثق تماماً أن كل خطوة خاطئة للأمام سوف تليها عواقب تجعل من خطواتك التالية أمرا أكثر تعقيدا، في ظل نظام مثالي تسيطر عليه الأرستقراطية الغربية المثالية المقيدة تجاه "الأوسلندر"، وهو ما يعني بالألمانية الشخص الأجنبي.
لن أطيل كثيرا في الفلسفة والكلام، ولكن مخطئ هو من يعتقد أنّه قادم إلى عالم لازوردي، فالعصافير هنا لا تزقزق إلا لخليلها، والشمس لا تشرق هنا غالباً فسوف تنتظرها كثيراً.. أنت هنا لست محور اهتمام، فلا أحد يهتم بعاداتك ولا تقاليدك، ولست صاحب العرق الأصيل كما تعلمت في كتب الدراسة منذ المرحلة الابتدائية.
في الحقيقة هو شعور غريب خارج عن المألوف ما أعيشه هنا كل يوم، ورغم
إيقاني الكامل و الحتمي بلزوم خضوع الإنسان لتجارب عديدة في الحياة (يندعك بالعامية الدمشقية) لتطوير مهاراته الفكرية والجسدية في بيئة مختلفة، لكن يمكنني القول: أنه بعد عام ونصف من المجيئ إلى هنا، أستطيع أن أضع بعض الانطباعات الشخصية عن هذا المكان، التي سألخصها بمجموعة من النقاط:
1- لا بدّ لي من الاعتراف أنّ مظاهر الترف واضحة للعين المجردة. الرخاء الاقتصادي الذي يعم البلاد تتضح معالمه في شوارع المدن وخاصة الكبرى منها.
2- القانون هو الحاكم الفعلي للبلاد، واحترام القانون وتطبيقه هو من أهم عوامل نجاح هذه البلاد سياسياً واقتصادياً.. لا صوت يعلو على صوت القانون.
3- هنا لا مكان للأحلام الصغيرة غير القابلة للتحقيق، بعض من الاجتهاد والعمل وستكون قادراً على العيش في ظروف أكثر من جيدة مقارنة مع بلادنا.
4- البيت، السيارة، السفر، الزواج ليس حلماً هنا، بل على العكس تماماً، فأنت قادر بعد عام كامل من العمل على تحقيق حلم السيارة والسفر (الاستجمام)، بل والزواج أيضاً من دون أية تكاليف إضافية "ما لها طعمة".
5- التنظيم الاجتماعي عالٍ للغاية، طفرات هم من لا يحترمون التنظيم الاجتماعي بكل أشكاله، وهنا القصد يعود على القانون الذي يضبط المجتمع بشكل ملحوظ، ناهيك عن دور الثقافة والأخلاق والضمير، لا العادات والتقاليد التي صقلها القانون بعناية فائقة.
6- الكذب، حذار وإياه فلا مكان له هنا، أمّا دقة المواعيد هي من أهم معايير احترام الآخرين والمجتمع.
7- القدرة على استخدام التكنولوجيا هي من أهم ما تريد أن تملكه لمواكبة الحياة هنا، إذا كنت من الأميين في عالم التكنولوجيا المتطورة، فلن تستطيع في الواقع مواكبة الحياة والحدث في هذه البلاد حتى في أدق تفاصيله.
8- المجتمع هنا معقد التركيبة، فمن الطبيعي جداً على سبيل المثال أن ترسل رسالة لشخص ويجيبك بعد يومين، لم يكن لديه الوقت لذلك في حين أنه في بلادنا (منفضح عرضو للزلمة إذا فات أون لاين ومارد) احترام وقت الآخرين والحياة الخاصة من المسلمات التي يجب أن لا تزج أنفك بها.
9- العلاقات الاجتماعية ليس من السهل بناؤها هنا، فربما تتعرف إلى مجموعة من الأصدقاء وتعتقد بأنك أصبحت مقرباً منهم، فلا تنصدم بالواقع المغاير لذلك.
10- حرية الملبس والمأكل والتحرك والعلاقة الجنسية بالنسبة لكلا الجنسين هي أمر طبيعي جداً، وما نعتبره عيباً اجتماعياً في بلادنا، سيكون هنا أمراً أكثر من طبيعي بل أكثر من عادي.
11- العمل هو شيء مقدس، واحترام توقيت العمل والانضباط بساعاته وبطبيعته وإتقانه هو أمر مسلم، غير ذلك ستجد نفسك مفصولاً أو أنّ أحداً غيرك حل مكانك.
13- التمييز أو العنصرية هو أمر طبيعي، ومن الممكن لك أن تواجهه كل يوم، فتعايش معه بحرفية دون اتخاذ موقف صارم أو حاد، لأنه لن يكون بصالحك.
14- أخيراً اللغة الألمانية هي أهم ما يجب عليك إتقانه، إذا ملكت مفتاح اللغة تكون قد قطعت ثلثي طريق الوصول للنجاح ولحياة سعيدة في هذه البلاد.
في ختام الحديث لا يسعني سوى أن أقول: تبقى عاطفة الرغبة والحنين للوطن طاغيةً على كل ما هو جميل وليس جميلاً هنا هنا، فهنا ليس للحياة نكهة أو لون، وربما يعتقد البعض أني أبالغ، ولكن رغم مغريات العيش الرغيد والأجور الجيدة، لا شيء كالوطن، ولا شيء كدمشق.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.