تمنِّي نعمة الغير هي البذرةُ التي نبتتْ منها شجرةُ العصيان في قلب الشيطان، فطرحت تفاحات المعصية.
تلك كانت زلة إبليس الكبرى، التي أعمت بصيرته، وملأت قلبَه غِلّاً وحقداً وحسداً حتى أوردته النارَ الكبرى.
هو تمنَّى مكانة الملائكة، تلك كانت تفاحته الأولى التي اشتهاها، فعبد الله نفاقاً وتزلّفاً حتى ينالها.
فمنَحَهُ القدير ما اشتهى، منحه التفاحة التي نبتتْ في شجرة معصيته، منحها له اختباراً لا تقديراً. وهكذا لفَّ حبلَ إفكه حول رقبته، وتاه في العالمين كبراً، حتى إذا ظنَّ أنه بلغ المنتهى، طرحتْ شجرته تفاحتها الثانية (الخلود)، فهو وإن كان قد نال مكانةً في السماء، إلا أنه يظلُّ ليس ملاكاً، بل جاناً، والملائكة فقط هي المخلدة إلى أن يشاء الله.
اشتهى تفاحته الجديدة التي طرحتْ في شجرة معصيته المتملِّكة من فؤاده، وبينما هو يخطِّط ويدبِّر ويفكر، طرحت الشجرةُ تفاحةً أخرى، لم يحسب لها حساباً قط.
خلق آدم، انتابته مشاعر القلق والترقب من هذا المخلوق الجديد الغريب، المصنوع من طين، طاشَ عقلُه، لم يفهم الحكمة، كيف ينالُ مَن صُنع من طينٍ مكانةً عظيمةً هكذا، ما هذه العلوم التي ميَّزه الله بها؟! كيف يتفوَّق بالعلم على مخلوقات صُنعت من النور.
إنه لا يختلف كثيراً عن البشر الذين يسكنون الأرض، قد يكون أكثر وسامة وأكثر علماً وأكثر تناسقاً بدنياً، وهم أقرب للحيوانات في الشكل والسلوك، لكنه يظل يشبههم.
كبرت تفاحته، وازدادت بهاءً مكانة آدم عند ربه، وعلمه.
وصار كالمجنون يحدث نفسه:
– أصلها مش شغلانة بقى، ما صدّقنا وصلنا لمكانة وأصبح حلم قيادة الملايكة قاب قوسين أو أدنى، جالي منين سي آدم ده راخر، وحكايته إيه؟! وإيه العلم اللي عنده ده وأجيبه منين؟! اللي بيميز الملايكة الطاعة والعبادة ودول حاجة مفهومة ومعروف تتعمل إزاي، لكن العلم ده أجيبه منين؟! وإيه آدم اللي م الطين ده اللي ربنا يفضله علينا بالعلم.
هكذا حدثته نفسه الشريرة.. وهكذا بدأ الغلّ والحقد والحسد يأكل قلبه.
حتى إذا كان اختبار الطاعة الذي أمر الله فيه مخلوقات السماء أن تسجد لآدم، كانت المعصية.
– لن أسجد للإناء الفخار ده.
وعصى.. أطاعت الملائكة الأمر الإلهي، لكن الشيطان أكل تفاحته، تفاحة الغل والحسد النابتة في شجرة المعصية المتجذرة في قلبه.
وهكذا أحكم حبل إفكه حول رقبته فخنقه، وكادت تزهق روحه، فنادى ربه، لم يطلب التوبة ولا الرحمة ولا الغفران، لم يرجع عن إثمه، بل طلب ما تمنّاه منذ البداية، ما حلم به دوماً، تفاحة الخلووووووود.
نعمة الملائكة التي من أجلها أطاع وعبد، كان يعبد طموحه لا خالقه.
فتبسَّم القدير وأمدَّ له في غيِّه، منحه الخلودَ المؤقت سخريةً منه ومن غروره، ولحكمة أخرى، حكمة علمها منذ الأبد، ومن أجلها خلق آدم.
تلقَّى إبليس المنحةَ فلم يشكر، وغشى قلبه غروره فلم يفهم.
وسار في درب نفسه المظلم، وحمل غيره أوزاره وأدرانه.
– هو السبب.. ذلك المخلوق الطيني اللزج هو السبب.. سأنتقم.. سأنتقم من الجميع.. سأنتقم من آدم.. وسأثبت للملائكة أنهم كانوا على حق عندما تخوفوا من خلقه وتعميره للأرض.. لن ينعم هذا الـ(آدم) بالسلام ما دمت حياً.
هكذا حدَّثته نفسه الدنسة، قرَّر أن يكرِّس حياته للانتقام، ما عادت شجرة معصيته تنتج ثمراً، أكل آخر ثمارها فاستحالت لا تثمر إلا أشواكاً تُمزِّق نفسَه، وكل صرخة ألم لا تزيده إلا غِلاً وحقداً، وتُذكي في روحه النيران، تغذِّيها شجرة المعصية التي تنتج فقط فروعاً وأوراقاً جفَّ ماءُ حيائِها، فصارت وقوداً جيداً للنار.
لكن كيف ينتقم؟!
وسوس لآدم بالأكل من شجرة معصيته، الخلد والملك، تلك كانت أماني الشيطان، زيّنها في قلب آدم فكانت الزلة، سقطت ورقة التوت، عصى آدم.
انتشى وملأت ضحكاته العالم السفلي.. أحسَّ بالفخر، وَلَاكَ لذة الانتقام حتى امتلأ.. لكنَّ الله تاب على آدم.. ما هذا.. صرخ وأكلته نيران الغل والحسد، وتساءل:
– لمااااااااااذاااااا؟!
لأن آدم أحسَّ بذنبه، تاب وأناب، لم يحمل غيره وزر ذنبه، بل لام نفسه على الذنب الذي لم يكن بالأساس عصيان تحدٍّ وغرور، بل زلة نفس، لحظة ضعف ما إن بلغها حتى أقرَّ بذنبه، شجرة عصيان آدم لم تكن بالأساس تنبت في قلبه، وهذا هو الفارق، لذا كانت التوبة أول ما خطر على قلب آدم، فتاب واستغفر، لا من أجل هوى، ولا طلباً لجنة حُرم منها، بل حباً لخالقه وطلباً لرضاه، وأسفاً على إغضابه، فلقَّنه الله كلماتِ التوبة.
لكنه حمَّله امتحاناً صعباً، له ولذريته من بعده، فإما جنة وإما نار.
– حسناً.. فلتكن ناراً أبدية تأكل قلبك وقلب أولادك يا آدم، لن أَصْلَى الجحيمَ وحدي.
هكذا حدَّث الخبيثُ نفسه وهو يصرخ ألماً وغلاً وحسداً، آدم لم يسئ للشيطان أبداً، بل لم تجمعهما منافسه، لكنه الغل والحقد وتمنِّي نعمة الغير هو ما أساء للشيطان، هو ما أفسد قلبه منذ البداية، هو ما أورده الجحيم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.