لعبة؟! نعم، هي لعبة لا شك في ذلك، كل ما رآه وعايشه كان مجرد لعبة كبيرة، هو أحد أطرافها، كان يقطع صالة "شقته" في خطوط مستقيمة شارد الذهن، ثم توقف وانهار على كرسي وأسند رأسه بين راحتي يديه، ثم ضغط بكل قوته كأنما يعصر مخّه بحثاً عن راحة فقدها منذ سويعات.
"العقل يا فؤاد، العقل ولا غير" لكن..؟ لا..لا، أي عقل هذا وكيف أثق بوجوده إن كان ما أعيشه محض لعبة كبيرة؟! ثم وقف واضعاً يديه في جيبي بنطاله ونظر إلى مرآة تتوسط دولاب ملابسه ذا الضلفتين، نظر إلى نفسه طويلاً، إلى ذقنه وبعض تفاصيل وجهه كأنما يتأكد من أن كل شيء بموضعه.
لا يعرف إلّا ما يستقر في عقله، له اسم كباقي الناس من حوله وذكريات مستقرة تتداعى على رأسه كل فترة فتثير حزنه بعض الوقت أو تبعث فيه سعادة في أحيان أخرى.
كثيراً ما توقف أمام اسمه "فؤاد"، سخيف لا معنى له كما فقدت الأشياء مسمياتها، صراع كبير أنشب مخالبه في عقله منذ فترة قصيرة، كشرارة اشتعلت برأسه حينما صحا من نومه على حلم أفزعه.
استيقظ "فؤاد" على هاجس يهزه بعنف ويجذبه من شعر رأسه، قائلاً بصوت خشن غليظ: لم تكن يوماً من الأيام إلّا طرفاً بلعبة كبيرة تدور حولك أو بك تمارس حياتك وقوفاً وسقوطاً، صعوداً وانكساراً، لكنك تؤدي دوراً محكم الصنعة متقن التصميم.
وقف أمام المرآة مرة أخرى ودار بينه وبينها حوار: كيف تعرف أنك حيّ، وأنك لست عنصراً داخل لعبة أكبر؟ ثم كيف بلغت بك الثقة حداً أن تتصور أنك موجود؟ فكيف لا يكون كل ذلك وهماً وأن الحقيقة غير ذلك بالمرة؟!
ما أشقاني من شخص! كان العَرق يغمره وقد ارتفعت حرارة جسده كثيراً كمن أصابه عارض من مرض مفاجئ، فعاد لكرسي من جديد، خلع حذاءه وتمدد بجسده نصفه الأعلى بالكامل، يحتويه الكرسي بمسانده، ورجلاه مُمددتان على استقامتهما للأرض، وتنسدل يداه بجواره.
سارت حياته كشخصيته بهدوء شديد إلا من عثرات بسيطة كانت تلتف حولها كتيار ماء جارٍ يتجاوز عقبات بطريقه، وثبات مرّ بها بدراساته ثم عمله، مواقف كثيرة كان يوقن بقدرته على السيطرة عليها بإرادته.
عمل مبرمجاً بشركة كبيرة، يتحصّل على دخل مادي جيد يجنّبه معضلات حياتية كثيرة، يقضي يومه ما بين عمله بالشركة، وحاسبه المحمول ببيته يفكر ويصمم برامج وقد استهوته منذ فترةٍ، الألعاب التفاعلية المجسّمة، رأى فيها عالماً غريباً، واقعاً موازياً، ثم صدمه أحدهم بقوله: "ربما كان واقعنا بدورنا موازياً".. رأيٌ أقضّ مضجعه فأعمل تفكيره فيه من زواياه المتعددة واقترب كثيراً من محظورات ومحرّمات يخشاها، ونواهٍ يعلم أنها قد تورده مورد تهلكة إن تجاوزت صدره وقفزت خارح حدود عقله.
حتى سويعات مضت، حين اقتحم عليه هاجس في أثناء نومه، نغّص عليه وقته، عبارة قصيرة: أنت جزء من لعبة كبيرة، لا تتوهّم ما لا يُعقل، ولا تنتظر ما لن يأتي أبداً.
أخرجه من شروده قرع على الباب، فقام ليجد صديقاً أقبل لزيارته، سأله:
– لماذا لم تأتِ اليوم للعمل؟ مريض؟ سلامتك.
– لا، رغبت فقط في إجازة اليوم.
– لكنك لست على ما يرام؛ فعيناك مجهدَتان ويبدو أنك لم تنل قسطاً كافياً من نومك.
– ملاحظتك صحيحة، فالحق أنني..! ثم جفل وتردد في الحديث.
– صديقي، رجاء أن تخبرني بما يعتريك إن لم يكن شيئاً شخصياً لا ترغب في البوح به.
– انظر يا صديقي، حلمت.. لا لم يكن حلماً؛ بل حقيقة، فقد رأيت أو أحسست بأحدهم يهز كتفي بعنف ويخبرني بصوت خشن النبرة بأنني أحيا ضمن لعبة كبيرة وأنني ومن سواي مجرد أطراف أو أشباح تجسّدت فيما بينها كحقائق.
– لست أفهمك..! ماذا تقصد أننا ضمن لعبة؟
– رجاء أن تنصت لما أقول حتى النهاية..
– معك لنهاية الحوار.
– حسناً، لتبسيط الفكرة التي أرّقتني ليلاً وطول النهار، هل مارست من قبلُ لعبة تفاعلية عبر حاسبك الآلي؟ سأجيب عنك وبدلاً منك بـ"نعم"، فجميعنا فعل ذلك ونفعل باستمرار.
الآن، تخيّل نفسك ضمن واحدة من ألعاب "الكمبيوتر"، لعبة تفاعلية كبيرة يتحرك أطرافها وعناصرها من تلقاء أنفسهم برموز وأوامر مصممّة من قبلُ..
– ههه (ساخراً).. لعبة تفاعلية.. أكمل يا صديقي، فيبدو لي أنك وصلت للقمة أو أنك تعاطيت صنفاً فائق الجودة..
– (هائماً في ملكوته) لك أن تسخر كما تشاء، لكن دعني أكمل حديثي معك لنهايته وتذّكر أنك قلت إنك معي لآخر الحوار! الآن، أنت ضمن لعبة تفاعلية كبيرة تدور أحداثها عبر شاشة عملاقة وهناك من يشاهدك مستمتعاً أو متفاعلاً أو مراقباً، بينما أنت ومن حولك باللعبة منغمسون حتى آذانكم غارقون في أحداثها، الآن هل..
– هل ماذا؟
– أقصد، هل يمكن أن تنأى بوعيك لأعلى لتدرك أنك وهُم مجرد ومضات كهربية ورموز برمجية تتفاعل فيما بينها دون أن تكون حقيقة أبداً؟
– سأسايرك بزعمك.. فكيف تجاوزت أنت وعيك وارتفعت ما فوق مستوى اللعبة لتدركها هكذا؟
– صدمني قول أحدهم منذ فترة، إن البشر قد اقتربوا كثيراً من حقيقة أزلية بتصميمهم تلك الألعاب التفاعلية المجسّمة.
– (متأففًا) بمعنى؟
– بمعنى أنني كمبرمج أصمم عالماً افتراضياً تفاعلياً، أصنعه بيدي وبعقلي، عالم متكامل من بشر ومادة لكنهم مجرد وهْم، هي في النهاية مجرد نبضات كهربية، تجسّدت في نظرنا في صورة عالم يتفاعل ونراه عبر شاشة الحاسب أو التلفاز نلهو معه أو به، تلك ليست مشكلتي، لكني وضعت نفسي مكان أحد عناصر تلك اللعبة. هبطت إليها بخيالي وعشت بينهم، عالم جميل وربما قاسٍ يمتلئ بالمآسي التي فُرضت على من يحيون بداخله..
– حديثك يثير قلقاً بداخلي عليك! ثم إن كانت لعبة، فماذا تريد؟ هل ترغب في الخروج منها؟ كيف؟ ومن يصدّقك؟ نحن؟ أطراف اللعبة معك؟ هيهات..
– لم لا؟! أردت فقط تبصرتهم بما يحدث.
– يا عزيزي، ما الجنون إلا خروج على إجماع، ونحن متفقون ومجمعون على واقع نحياه. وسيقاتلونك على رأيك، لعل أشباهك من نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية حاولوا خروجاً من قبل.
– تلك رسالتي ودوري باللعبة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.